قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
لما جرى ذكر الحق والباطل وكانوا يزعمون من مجموع أقوالهم أن النبي عليه الصلاة والسلام غير صادق في دعوى الرسالة من الله كانت أقوالهم تقتضي زعمهم إياه على ضلال وكان الردّ عليهم قاطعاً بأنه على هدى بقوله : { قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } [ سبأ : 49 ] انتُقل هنا إلى متاركة جِدالهم وتركهم وشأنَهم لقلة جدوى مراجعتهم .
وهذا مَحْضَر خاص وطَيّ بساط مجلس واحد ، فلا يقتضي أنه يستمر على ترك مجادلتهم لأن الواقع ينافي ذلك فقد نزل القرآن بعد ذلك طويلاً مشتملاً على دعوتهم وتحذيرهم وإنذارهم .
وصيغة القصر التي في قوله : { فإنما أضل على نفسي } لقصر الضلال المفروض ، أي على نفسي لاَ عليكم لأنهم كانوا يحاولون أن يقلعَ عمَّا دعاهم إليه ولم يقتصروا على صدودهم .
وتعدية { أَضل } بحرف { على } تتضمن استعارة مكنية إذ شُبه الضلال بجريرة عليه فعدّاه بالحرف الشائع استعماله في الأشياء المكرَه عليها غير الملائمة ، عكس اللام ، وذكر حرف الاستعلاء تخييل للمكنية ولا يُقال : ضُمِّن { أَضِلّ } معنى أَجنِي ، لأن { ضللت } الذي هو فعل الشرط المفروض غير مضمن معنى فعل آخر .
وأما قوله : { وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } فكالاحتراس من أن يكون حاله مقتصراً على فرض كونه مظنة الضلال مع ما فيه من الاعتراف لله بنعمته بأن ما يناله من خير فهو بإرشاد الله لا من نفسه لأنه ما كان يصِل لذلك وهو مغمور بأمة جاهلية لولا إرشاد الله إياه كما قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] .
واختير في جانب الهدى فعل { اهتديت } الذي هو مطاوع ( هَدَى ) لما فيه من الإِيماء إلى أن له هادياً ، وبيَّنه بقوله : { فبما يوحي إلي ربي } ليحصل شكره لله إجمالاً ثم تفصيلاً ، وفي قوله : { فبما يوحي إلي ربي } إيماء إلى أنه على هدى لأنه أثبت أن وحياً من الله وارِد إليه .
وقد استفيد أن الضلال المفروض إن حصل فسببه من قبل نفسه ، من إسناد فعل { أَضِلّ } إلى ضمير المتكلم ثم مما عقبه من قصر الضلال على الحصول من المتكلم ، وهو أغرق في التعلق به ، وليس الغرض من ذلك الكلاممِ بيانَ التسبب ولكن عدم مجاوزة الضلال المفروض إليهم إذ هم يتبعوه فيما تلبس به ، ولم يُرتكب مثل هذا في جانب فرض اهتدائه لأن اهتداءه كان هو الحاصل في الواقع وكان شاملاً له ولغيره من الذين اتبعوه لأن اهتداءه ملابس لدعوته الناسَ إلى اتّباعه ، ولأن الغرض من الشرطين مختلف وإن كان يُعلم من المقابلة أن سبب الضلال والاهتداء مختلف من جهة المعنى ولا سيما حين رجَّح جانب اهتدائه بقوله : { فبما يوحي إلي ربي } .
على أن المقابلة بين الشرطين ينقدح بها في ذهن السامع أن الضلال من تسويل النفس ولو حصل لكان جناية من النفس عليه وأن الاهتداء من الله وأنه نفع ساقه إليه بوحيه .
وجملة { إنه سميع قريب } تذييل لما أفادته الجملتان المقولتان قبله من الترديد في نسبة الاهتداء والضلال ، أي أن الله يعلم أني على هدى أو ضده ويحصل من ذلك علم مقابله من أحوال خصومه لأنه سميع لما يقوله الفريقان قريب مما يضمرونه فلا يخفى عليه .
والقرب هنا كناية عن العلم والإِحاطة فيه قرب مجازي . وهذا تعريض بالتهديد .