وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14(
ولا جرم أن المراد بالآخرين الأمة الأخيرة وهم المسلمون .
فالسابقون طائفتان طائفة من الأمم الماضين ومجموع عددها في ماضي القرون كثير مثل أصحاب موسى عليه السلام الذين رافقوه في التيه ، ومثل أصحاب أنبياء بني إسرائيل ، ومثل الحواريين ، وطائفة قليلة من الأمة الإسلامية وهم الذين أسرعوا للدخول في الإسلام وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100 ] ، وإذ قد كانت هذه الآية نزلت قبل الهجرة فهي لا يتحقق مفادها إلا في المسلمين الذين بمكة .
و { مِن } تبعيضية كما هو بيّن ، فاقتضى أن السابقين في الأزمنة الماضية وزمان الإسلام حاضِره ومستقبله بعض من كلًّ ، والبعضية تقتضي القلة النسبية ولفظ { ثلة } مشعر بذلك ولفظ { قليل } صريح فيه .
وإنما قوبل لفظ { ثلة } بلفظ { قليل } للإِشارة إلى أن الثلة أكثر منه . وعن الحسن أنه قال : سابقو من مضى أكثر من سابقينا .
وروي عن أبي هريرة " أنه لما نزلت : { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحزنوا وقالوا : إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل ، فنزلت نصف النهار { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39 ، 40 ] فنسخت : { وقليل من الآخرين } " . وهذا الحديث مشكل ومجمل فإن هنا قسمين مشتبهين ، والآية التي فيها { وثلّة من الآخرين } [ الواقعة : 40 ] ليست واردة في شأن السابقين فليس في الحديث دليل على أن عدد أهل مرتبة السابقين في الأمم الماضية مساوٍ لعدد أهل تلك المرتبة في المسلمين ، وأن قول أبي هريرة : «فنَسخت { وقليل من الآخرين } » يريد نسخت هذه الكلمة . فمراده أنها أبطلت أن يكون التفوق مطرداً في عدد الصالحين فبقي التفوق في العدد خاصاً بالسابقين من الفريقين دون الصالحين الذين هم أصحاب اليمين ، والمتقدمون يطلقون النسخ على ما يشمل البيان فإنه مورد آية : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39 ، 40 ] في شأن صنف أصحاب اليمين ومورد الآية التي فيها : { وقليل من الآخرين } هو صنف السابقين فلا يتصور معنى النسخ بالمعنى الاصطلاحي مع تغاير مورد الناسخ والمنسوخ ولكنه أريد به البيان وهو بيان بالمعنى الأعم .