لما كان الوعد المتقدم بقوله تعالى : { وليجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : 96 ] خاصاً بأولئك الذين نهوا عن أن يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً عُقب بتعميمه لكل من ساواهم في الثبات على الإسلام والعمل الصالح مع التبيين للأجر ، فكانت هذه الجملة بمنزلة التذييل للتي قبلها ، والبيان لما تضمّنته من مجمل الأجر . وكلا الاعتبارين يوجب فصلها عمّا قبلها .
وقوله تعالى : { من ذكر أو أنثى } تبيين للعموم الذي دلّت عليه { مَن } الموصولة . وفي هذا البيان دلالة على أن أحكام الإسلام يستوي فيها الذكور والنساء عدا ما خصّصه الدين بأحد الصّنفين . وأكّد هذا الوعدُ كما أكّد المبيّن به .
وذُكر «لنحيينّه» ليبنى عليه بيان نوع الحياة بقوله تعالى : { حياة طيبة }. وذلك المصدر هو المقصود ، أي لنجعلنّ له حياة طيّبة . وابتدىء الوعد بإسناد الإحياء إلى ضمير الجلالة تشريفاً له كأنه قيل : فله حياة طيبة مِنّا . ولما كانت حياة الذّات لها مدّة معيّنة كثُر إطلاق الحياة على مدّتها ، فوصفها بالطيّب بهذا الاعتبار ، أي طيب ما يحصل فيها ، فهذا الوصف مجاز عقلي ، أي طيّباً ما فيها . ويقارنها من الأحول العارضة للمرء في مدّة حياته ، فمن مات من المسلمين الذين عملوا صالحاً عوّضه الله عن عمله ما فاته من وعده .
ويفسّر هذا المعنى ما ورد في الصحيح عن خباب بن الأرت قال : «هاجرنا مع رسول الله نبتغي بذلك وجه الله فوجب أجرنا على الله ، فمنّا من مضى لم يأكل من أجره شيئاً ، كان منهم مُصعَب بنُ عمير قتل يوم أُحد فلم يترك إلا نَمِرة كنّا إذا غطّينا بها رأسه خرجت رجلاه ، وإذا غُطي بها رجلاه خرج رأسه ، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدُبُها» .
والطيِّب : ما يطيب ويحسن . وضد الطيّب : الخبيث والسيّىء . وهذا وعد بخيرات الدنيَا . وأعظمها الرضى بما قسم لهم وحسن أملهم بالعاقبة والصحّة والعافية وعزّة الإسلام في نفوسهم . وهذا مقام دقيق تتفاوت فيه الأحوال على تفاوت سرائر النفوس ، ويعطي الله فيه عبادهُ المؤمنين على مراتب هممهم وآمالهم . ومن راقب نفسه رأى شواهد هذا .
وقد عُقب بوعد جزاء الآخرة بقوله تعالى : { ولنجزينَّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } ، فاختص هذا بأجر الآخرة بالقرينة بخلاف نظيره المتقدّم آنفاً فإنه عامّ في الجَزاءين .