وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) و { فصل الخطاب } : بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان ، ووصف القول ب ( الفصل ) وصف بالمصدر ، أي فاصل . والفاصل : الفارق بين شيئين ، وهو ضدّ الواصل ، ويطلق مجازاً على ما يميز شيئاً عن الاشتباه بضده . وعطفه هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتاً } [ النبأ : 17 ] .
والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه «الزبور» المسمّى عند اليهود ب«المزامير» فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم .
وعن أبي الأسود الدؤلي : { فصل الخطاب } هو قولُه في خطبه «أما بعد» قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحاً لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود . فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإِضافة حقيقية . وأول من قال : «أما بعد» هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : { فصل الخطاب } القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإِضافته إلى الخطاب .
واعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّاباً ، وهو القائل : «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعَرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهباً فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحَمَام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة . وشدّ الله مُلك الإِسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : «أوتيت جوامع الكَلِم واختصر لي الكلام اختصاراً» بَلْهَ ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [ الطارق : 13 - 14 ] . جملة { وهل أتاكَ نَبأ الخصمالخطاب * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب * إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الخطاب * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى } إلى آخرها معطوفة على جملة { إنَّا سخرنا الجبال معه } [ ص : 18 ] . والإِنشاء هنا في معنى الخبر ، فإن هذه الجملة قصت شأناً من شأن داود مَع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها .