قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) لمّا أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلاً عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالباً من ذلك جزاء ، أي لو سألهم عليه أجراً لراج اتّهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه ، فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبه على أن يكذب لغير نفع يرجوه لِنفسه .
والمعنى عموم نفي سؤالِه الأجرَ منهم من يوم بعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو قياس استقراء لأنهم إذا استقرَوْا أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما مضى وجدوا انتفاء سؤاله أجراً أمراً عاماً بالاستقراء التام الحاصل من جميع أفراد المشركين في جميع مخالطاتهم إياه ، فهو أمر متواتر بينهم فهذا إبطال لقولهم { كذاب } [ ص : 4 ] المحكي عنهم في أول السورة وإقامة الحجة على صدق رسالته كما سيجيء .
وضمير { عَلَيْهِ } عائد إلى القرآن المعلوم من المقام فإن مبدأ السورة قوله { والقراننِ ذي الذِكرِ } [ ص : 1 ] فهذا من رد العجز على المصدر .
وعطف { وما أنا من المتكلفين } أفاد انتفاء جميع التكلف عن النبي صلى الله عليه وسلم
والتكلف : معالجة الكلفة ، وهي ما يشقّ على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه ، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل ، فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه .
فالمعنى هنا : ما أنا بمُدَّع النبوءة باطلاً من غير أن يوحى إليّ وهو رد لقولهم : { كذاب } [ ص : 4 ] وبذلك كان كالنتيجة لقوله : { ما أسألكم عليه من أجْرٍ } لأن المتكلف شيئاً إنما يطلب من تكلُّفِه نفعاً ، فالمعنى : وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم . ومنه حديث الدارقطني عن ابن عمر قال : خرج رسول الله في بعض أسفاره فمرّ على رجل جالس عند مقراة له ( أي حوض ماء ) ، فقال عُمر : يا صاحبَ المَقراة أَوَلَغَتْ السباع الليلة في مَقراتك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا صاحب المَقراة لا تخبره ، هذا متكلف لها مَا حملتْ في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور . وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود أنه قال : «يا أيها الناس من علِم منكم علماً فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، قال الله لرسوله : { قُلْ ما أسألُكُم عليهِ من أجْرٍ وما أنا مِن المتكلفين } .
وأخذ من قوله : { وما أنا من المتكلفين } أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه ، أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإِسلام ، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى الله عليه وسلم وبين روح شريعته تناسباً ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بِشَرَاشِره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به .
وتركيب { ما أنا من المتكلفين } أشدّ في نفي التكلّف من أن يقول : ما أنا بمتكلف ، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } في سورة البقرة ( 67 .