فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) عُقب ما مضى من القصة بالمقصود وهو هذه الأمور الثلاثة المترتبة المتفرع بعضها على بعض وهي : الانتقام ، فالإغراق ، فالاعتبار بهم في الأمم بعدَهم .
والأسف : الغَضَب المشوبُ بحُزن وكدَر ، وأطلق على صنيع فرعون وقومه فعل { ءاسفونا } لأنه فعل يترتب عليه انتقام الله منهم انتقاماً كانتقام الآسف لأنهم عصَوا رسوله وصمّموا على شركهم بعد ظهور آيات الصدق لموسى عليه السلام .
فاستعير { ءاسفونا } لمعنى عَصَوْنا للمشابهة ، والمعنى : فلما عصونا عصيان العبدِ ربّه المنعِم عليه بكفران النعمة ، والله يستحيل عليه أن يتصف بالآسف كما يستحيل عليه أن يتصف بالغضب على الحقيقة ، فيؤول المعنى إلى أن الله عاملهم كما يعامل السيدُ المأسوفُ عبداً آسفه فلم يترك لرحمةِ سيده مسلكاً . وفعل أسِف قاصر فعدّي إلى المفعول بالهمزة .
وفي قوله : { فلما ءاسفونا } إيجاز لأن كونهم مؤسِفين لم يتقدم له ذكر حتى يبنى أنه كان سبباً للانتقام منهم فدلّ إناطة أداة التوقيت به على أنه قد حصل ، والتقدير : فآسفونا فلما آسفونا انتقمنا منهم . والانتقام تقدم معناه قريباً عند قوله تعالى : { فإنا منهم منتقمون } [ الزخرف : 41 ] .
وإنما عطف { فأغرقناهم } بالفاء على { انتقمنا منهم } مع أن إغراقهم هو عين الانتقام منهم ، إِمّا لأن فعل { انتقمنا } مؤَوَّل بقدَّرنا الانتقامَ منهم فيكون عطفُ { فأغرقناهم } بالفاء كالعطف في قوله : { أنْ يقول له كُن فيكونُ } [ يس : 82 ] ، وإما أن تُجعل الفاء زائدة لتأكيد تسبب { ءاسفونا } في الإغراق ، وأصل التركيب : انتقمنا منهم فأغرقناهم ، على أن جملة { فأغرقناهم } مبينة لجملة { انتقمنا منهم } فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين ، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة { انتقمنا } على جملة { فاستخف قومه } [ الزخرف : 54 ] فأغرقناهم أجمعين } وتكون جملة { انتقمنا } معترضة بين الجملة المفرعة والمفرعة عنها ، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليّم } [ الأعراف : 136 ] .
وفرع على إغراقهم أن الله جعلهم سلفاً لقوم آخرين ، أي يأتون بعدهم . والسلف بفتح السين وفتح اللام في قراءة الجمهور : جمع سالف مثل : خدم لخادم ، وحَرس لحارس . والسالف الذي يسبق غيره في الوجود أو في عمل أو مكان ، ولما ذكر الانتقام كان المراد بالسلف هنا السالف في الانتقام ، أي أنَّ مَن بعدَهم سيلقَون مثل ما لَقُوا .