أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25(
والمعنى : أنهم كذبوا إنذارات رسولهم ، أي جحدوها ثم كذبوا رسولهم ، فلذلك فُرع على جملة كذبت ثمود بالنذر } قوله : { فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه } إلى قوله : { بل هو كذاب أشر } ولو كان المراد بالنذر جمع النذير وأطلق على نذيرهم لكان وجه النظم أن تقع جملة { فقالوا أبشراً } إلى آخرها غير معطوفة بالفاء لأنها تكون حينئذٍ بياناً لجملة { كذبت ثمود بالنذر } .
والمعنى : أن صالحاً جاءهم بالإِنذارات فجحدوا بها وكانت شبهتهم في التكذيب ما أعرب عنه قولهم : { أبشراً منا واحداً نتبعه } إلى آخره ، فهذا القول يقتضي كونه جواباً عن دعوة وإنذار ، وإنما فُصّل تكذيب ثمود وأجمل تكذيب عاد لقصد بيان المشابهة بين تكذيبهم ثمود وتكذيب قريش إذ تشابهت أقوالهم .
والقول في انتظام جملة { فقالوا أبشراً } الخ بعد جملة { كذبت ثمود بالنذر } كالقول في جملة { فكذبوا عبدنا } [ القمر : 9 ] بعد جملة { كذبت قبلهم قوم نوح } [ القمر : 9 ] .
وهذا قول قالوه لرسولهم لما أنذرهم بالنذر لأن قوله : { كذبت } يؤذن بمخبر إذ التكذيب يقتضي وجود مخبر . وهو كلام شافهوا به صالحاً وهو الذي عنوه بقولهم : { أبشراً منَّا } إلخ . وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة .
وانتصب { أبشراً } على المفعولية ل { نتبعه } على طريقة الاشتغال ، وقدم لاتصاله بهمزة الاستفهام لأن حقها التصدير واتصلت به دونَ أن تدخل على نتبع لأن محل الاستفهام الإنكاري هو كون البشر متبوعاً لا اتباعهم له ومثله { أبشر يهدوننا } [ التغابن : 6 ] وهذا من دقائق مواقع أدوات الاستفهام كما بين في علم المعاني .
والاستفهام هنا إنكاري ، أنكروا أن يرسل الله إلى الناس بَشراً مثلهم ، أي لو شاء الله لأرسل ملائكة .
ووصف { بشراً } ب { واحداً } : إما بمعنى أنه منفرد في دعوته لا أتباع له ولا نصراء ، أي ليس ممن يخشى ، أي بعكس قول أهل مدين
{ ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز } [ هود : 91 ] . وإما بمعنى أنه من جملة آحاد الناس ، أي ليس من أفضلنا . وإما بمعنى أنه منفرد في ادعاء الرسالة لا سلف له فيها كقول أبي مِحْجن الثقفي :
قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً ... سَكن المدينة من مزارع فُوم
يريد : لا يناظرني في ذلك أحد .
وجملة { إنا إذا لفي ضلال وسعر } تعليل لإنكار أن يتبعوا بشراً منهم تقديره : أنتّبعك وأنت بشر واحد منا .
و ( إذن ( حرف جواب هي رابطة الجملة بالتي قبلها . والضلال : عدم الاهتداء إلى الطريق ، أرادوا : إنا إذن مخطئون في أمرنا .
و { السُعُر } : الجُنون ، يقال بضم العين وسكونها .
وفسر ابن عباس السُعُر بالعذاب على أنه جمع سَعير . وجملة { ألقى الذكر عليه من بيننا } تعليل للاستفهام الإِنكاري .
و { ألقى } حقيقته : رُميَ من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإِنزال الذكر من السماء قال تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
و ( في ( للظرفية المجازية ، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف .
و { من بيننا } حال من ضمير { عليه } ، أي كيف يُلقى عليه الذكر دوننا ، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحى إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمور بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق .
وحرف { من } في قوله : { من بيننا } بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولاً من بيننا كقوله تعالى : { والله يعلم المفسد من المصلح } [ البقرة : 220 ] .
و { بل هو كذاب أشر } إضراب عن ما أنكروه بقولهم : { أألقى الذكر عليه من بيننا } أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب فيما ادعاه ، بَطر متكبر .
و ( الأشر ( بكسر الشين وتخفيف الراء : اسم فاعل أَشِر ، إذا فرح وبَطَر ، والمعنى : هو معجَب بنفسه مُدَّععٍ ما ليس فيه .