{ وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة }.
عُطفْت جملة : { وربك الغني } على جملة : { وما ربُّك بغافل عمّا يعملون } [ الأنعام : 132 ] إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } [ الزمر : 7 ] ، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : { وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } في سورة الكهف ( 58 ).
وقوله : وربك } إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم ، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم
والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة . إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق . وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات . وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً } في سورة النّساء ( 135 ).
وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر الغنى على الله ، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم ، أي ربّك الغنيّ لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي . وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو : إن يشأ يذهبكم } فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى ، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى .
و { ذو الرحمة } خبر ثان . وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه : { ذو الرحمة } : لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه ، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة { ذو } لأنّ { ذو } كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها صاحب ، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة ، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله : { إن يشأ يذهبكم } ، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين ، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ }.
استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك ، فيقولون : { متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } [ السجدة : 28 ] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه : { إنَّ مَا توعدون لآتتٍ وما أنتم بمعجزين } [ الأنعام : 134 ].
فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين ، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً .
والمعنى : إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال : { وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة . وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ . ومفعول : { يشأ } محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة .
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله : { وإنَّا على ذهاب به لقادرون } [ المؤمنون : 18 ].
والاستخلاف : جعل الخَلف عن الشّيء ، والخَلَف : العوض عن شيء فائت ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد ، و { مَا } موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم .
والتّشبيه في قوله : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام ، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب .
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافاً كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف . و { مِنْ } ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ).
ووصف قوم } ب { آخرين } للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة .