يَظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث ، وعلى وقوعه ، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبَقَها ، فعمَروا الأرض جيلاً بعد جيل ، لا يُعجزه أن يحشرها جميعاً بعد انقضاء عالم حياتها الأولى . ثمّ إنّ الذي دبَّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا ، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين ، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } ، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلونكم في ما آتاكم }.ولذلك أعقبه بتذييله : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم }.
فالخطابُ موجَّه إلى المشركين الذين أمِر الرّسولُ عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم : { أغير الله أبغي رباً } [ الأنعام : 164 ] ؛ وذلك يذكّر بأنَّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك . فموقع هذه عقب قوله : { ثم إلى ربكم مرجعكم } [ الأنعام : 164 ] تذكير بالنّعمة ، بعد الإنذار بسلبها ، وتحريض على تدارك ما فات ، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها .
ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة ، وتكون الإضافة على معنى اللام ، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكتْ الأرض فأنتم خلائفُ للأرض ، فتكون بشارة للأمّة بأنَّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض . والمراد : الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأياً ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر .
والخلائف : جمع خليفة ، والخليفة : اسم لما يُخلف به شيء ، أي يجعل خلفاً عنه ، أي عوضَه ، يقال : خليفة وخِلْفة ، فهو فَعيل بمعنى مفعول ، وظهرت فيه التّاء لأنَّهم لما صيّروه اسماً قطعوه عن موصوفه .
وإضافته إلى الأرض على معنى ( في ) على لوجه الأوّل ، وهو كون الخَطاب للمشركين ، أي خلائف فيها ، أي خلف بكم أمماً مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ] { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون } [ الأعراف : 129 ]. والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين .
وفي هذا أيضاً تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة : وذلك أنَّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم ، فهذه نعمة ، لأنَّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وُجد هؤلاء .
وعطْف قوله : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله : { جعلكم خلائف الأرض } فهو أيضاً عبرة وعِظة ، لعدم الاغترار بالقوّة والرّفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم .
ولذلك عقّبه بقوله : { ليبلونكم ما آتاكم } أي ليَخْبُركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات . والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم . وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه .
والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيهاً للتكوين بإعطاء المعطي شيئاً لغيره .
والبلْو : الاختبار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ]. والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب النّاس ، ولكن سمّى ذلك بَلْوى لأنَّها لا تظهر للعيان إلاّ بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التّعليل ، وقريب منه قول إياس بن قبيصَة الطائي
: ... وأقبلتُ والخطيّ يخطر بيننا
لأعلم مَنْ جَبانها مِن شُجاعها ... وجملة : { إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة { سريع العقاب } وصفة { لغفور } ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة .
واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقَب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى : كلّ آت قريب ، إذ لا موقع له هنا .
ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف ( سريع العقاب ) على موكِّد واحد ، وتعزيز وصف ( الغفور الرحيم ) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ ، ولام الابتداء ، والتّوكيد اللّفظي؛ لأنّ ( الرّحيم ) يؤكِّد معنى ( الغفور ) : ليُطمئِن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليَسْتَدعي أهلَ الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه .