عَطفٌ على نظائره ممّا حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم من قوله : { وما قدروا الله حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللَّه على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] وقوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } [ الأنعام : 100 ] وقوله : { وأقسموا بالله جَهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنُنّ بها } [ الأنعام : 109 ] وقوله : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] وما تخلّل ذلك فهو إبطال لأقوالهم ، ورد لمذاهبهم ، وتمثيلات ونظائر ، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قوله : { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ]. وهذا ابتداءُ بيان تشريعاتهم الباطلة ، وأوّلُها مَا جعلوه حقّاً عليهم في أموالهم للأصنام : ممّا يشبه الصّدقات الواجبة ، وإنَّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور ، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي .
والجعل هنا معناه الصّرف والتّقسيم ، كما في قول عمر في قضيّة : ما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم المختصم فيها العبّاس وعليّ رضي الله عنهم «فيجعَلُه رسولُ اللَّه مجعل ماللِ اللَّه» أي يضعه ويصرفه ، وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير ، فكما جاء صيّر لمعان مجازية ، كذلك جاء ( جعل ) ، فمعنى { وجعلوا لله } : صرفوا ووضعوا لله ، أي عيّنوا له نصيباً ، لأنّ في التّعيين تصييراً تقديرياً ونقلاً . وكَذلِك قول النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي طلحةَ : " أرى أن تجعلَها في الأقربِين " أي أن تصرفها إليهم ، و { جعل } هذا يتعدّى إلى مفعول واحد ، وهذه التّعدية هي أكثر أحوال تعديته ، حتّى أنّ تعديته إلى مفعولين إنَّما ما في الحقيقة مفعولٌ وحالٌ منه .
ومعنى : { ذرأ } أنشأ شيئاً وكثّره . فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء . و { ممّا ذرأ } متعلّق ب { جَعلوا } ، و { من } تبعيضية ، فهو في معنى المفعول ، و { مَا } موصولة ، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم ، إذ ملَّكوا الله بعض مَلْكه ، لأنّ ما ذرأه هو مِلْكُه ، وهو حقيق به بلا جَعْل منهم .
واختيار فعل : { ذرأ } هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد ، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم . ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] الآية .
و { من الحرث والأنعام } بيان { ما } الموصولة . والحرثُ مراد به الزّرع والشّجر ، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع ، قال تعالى : { أن اغْدُوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [ القلم : 22 ].
والنّصيب : الحظ والقِسْم وتقدّم في قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب ممّا كسبوا } في سورة البقرة ( 202 ) ، والتّقدير : جعلوا لله نصيباً ولغيره نصيباً آخر ، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم . وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله : فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا }.
والإشارتان إلى النّصيب المعيّن لله والنّصيب المعيّن للشركاء ، واسما الإشارة مشار بكلّ واحد منهما إلى أحد النّصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم .
والزّعم : الاعتقاد الفاسد ، أو القريب من الخطأ ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك في سورة النساء ( 60 ) ، وهو مثلّث الزاي ، والمشهور فيه فتح الزاي ، ومثله الرّغم بالرّاء مثلّث الراء . «
وقرأ الجمهور بفتح الزاي وقرأه الكسائي بضمّ الزاي ويتعلّق قولهم : بزعمهم } ب { قالوا } وجُعل قوله : { بزعمهم } موالياً لبعض مقول القول ليكون متّصلاً بما جعلوه لله فيرتَّبُ التّعجيب من حكمهم بأنّ ما كان لله يصل إلى شركائهم ، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتّى نكلوا عنه وأشركوا شركاؤهم فيماجعلوه لله بزعمهم .
والباء الداخلة على { بزعمهم } إمّا بمعنى { مِن } أي ، قالوا ذلك بألسنتهم ، وأعلنوا به قولاً ناشئاً عن الزعم ، أي الاعتقاد الباطل ، وإمّا للسببيّة ، أي قالوا ذلك بسبب أنّهم زعموا . ومحلّ الزّعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وبين الآلهة ، وإلاّ فإنّ القول بأنّه ملك لله قول حقّ ، لكنّهم لما قالوه على معنى تعيين حقّ الله في ذلك النّصيب دون نصيب آخر . كان قولهم زعماً باطلاً .
والشّركاء هنا جمع شريك ، أي شريك الله سبحانه في الإلهية ، ولمّا شاع ذلك عندهم صار كالعَلم بالغلبة ، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتقّ منه أعني الشّركة ثمّ لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللّقب ، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم ، فقالوا : لشركائنا ، إضافة معنوية لا لفظيّة ، أي للشّركاء الّذين يُعرفون بنا . قال ابن عبَّاس وأصحابه : كان المشركون يجعلون لله من حروثهم ( يعني زرعهم وشجرهم ) وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للأصنام أنفقوه عليها وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة .
وكانوا يجعلون البَحيرة والسائبة والوصيلة والحامي للأصنام . وذكر ابن إسحاق : أنّ ( خَوْلاَن ) كان لهم صنم اسمه ( عَمّ أنَس ) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قِسَما بينه وبين الله ، فما دخل في حق ( عَمّ أنس ) من حَقّ الله الّذي سَمَّوه له تركوه للصّنم وما دخل في حقّ الله من حقّ ( عَمّ أنس ) ردّوه عليه ، ومنهم بطن يقال لهم ( الأدِيم ) قال : وفيهم نزل قوله تعالى : وجعلوا لله مما ذرأ الآية .
وقوله : { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم }.قال ابن عبّاس وقتادة : كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الرّيح فحملت من الّذي لله إلى الّذي لشركائهم أقَرّوه وقالوا : إنّ الله غنيّ عنه ، وإذا حملت من الّذي لشركائهم إلى الّذي للَّهِ ردّوه ، وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله ممّا لله ، ولا يفعلون ذلك فيما لله ، وإذا انفجر من سقي ما جعلوه لله فساح إلى ما للّذي للأصنام تركوه وإذا انفجر من سقي ما للأصنام فدخل في زرع الّذي لله سَدّوه .
وكانوا إذا أصابتهم سَنَةٌ استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقرّوا ما جعلوه لشركائهم للشركاء ، وإذا هلك الّذي جعلوه للأصنام وكثر الّذي جعلوه لله قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من نفقة وأخذوا الّذي جعلوه لله فأنفقوه عليها ، وإذا أجدب الّذي لله وكثر الّذي لآلهتهم قالوا : لو شاء الله أزكى الّذي له فلا يردّون على ما جعلوه لله شيئاً ممّا لآلهتهم ، فقوله : { فلا يصل إلى الله } مبالغة في صونه من أن يعطى لما لله لأنَّه إذا كان لا يصل فهو لا يُتْرك إذا وَصل بالأوْلى .
وعدّي { يصل } إلى اسم الجلالة وإلى اسم شركائهم . والمراد لا يصل إلى النّصيب المجعول لله أو إلى لشركائهم لأنَّهم لما جعلوا نصيباً لله ونصيباً لشركائهم فقد استشعروا ذلك النّصيب محوزاً لمن جُعل إليه وفي حرزه فكأنّه وصل إلى ذاته .
وجملة : { ساء ما يحكمون } استئناف لإنشاء ذمّ شرائعهم . وساء هنا بمعنى بِئس : و { مَا هي فاعل ساء } وهي موصولة وصلتها { يحكمون } ، وحذف العائد المنصوب ، وحذف المخصوص بالذّم لدلالة : { جعلوا } عليه ، أي : ساء ما يحكمون جَعْلُهم ، وسمَّاه حكماً تهكّما ، لأنَّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق ، ففَصَلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام ، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يَأخذ الله حقّ الأصنام ، فكان حكماً باطلاً كقوله : { أفحكم الجاهليّة يبغون } [ المائدة : 50 ].