ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
، ثمّ إن علينا بيان مراتب عقوبته ، قال القفال : فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه .
وأقول : إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه .
والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة : أن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلّت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عَده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور ، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها ، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطاً لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه ، فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه ، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لمَا كان يلاقيه في ذلك من الشدة .
و ( قرآن ) في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغُفران والفُرقان ، قال حسان في رثاء عثمان بن عفان :
يقَطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا ... ولفظ { علينا } في الموضعين للتكفل والتعهّد .
و { ثم } في { ثم إن علينا بيانه } للتراخي في الرتبة ، أي التفاوتتِ بين رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قولُه { إنَّ علينا جَمْعه وقرآنه } ، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي { إِن علينا بيانه } . ومعنى الجملتين : أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك ، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك ، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظاً في الصدور بيّناً لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قُرب أو بُعد .
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه .
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبيّن متمسكين بأن { ثم } للتراخي وهو متمسَّك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته { ثم } إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن ، ولأن { ثم } قد عَطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ { بيانه } خاصة ، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقاً لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح .