القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها= يعني أهل الشرك بالله والمعصية له=(ليمكروا فيها)، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه =(وما يمكرون) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله =" وهم لا يشعرون ", يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, (40) فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن .
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
13847- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .
13848- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .
13849- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .
13850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نـزلت في المستهزئين = قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: (أكابر مجرميها)، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .
* * *
والأكابر: جمع " أكبر ", كما " الأفاضل " جمع " أفضل " . ولو قيل: هو جمع " كبير ", فجمع " أكابر ", لأنه قد يقال: " أكبر ", كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [سورة الكهف: 103]، واحدهم " الخاسر "، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا " الأكابرة " و " الأصاغرة ", و " الأكابر "، و " الأصاغر "، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: " هو أفضل منك " . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على " أفعل "، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم " الأحمر " و " الأسود "،" الأحامر " و " الأحامرة ", و " الأساود " و " الأساودة "، ومنه قول الشاعر: (41)
إنَّ الأحَـــامِرَة الثَّلاثَــةَ أَهْلَكَــتْ
مَــالِي, وكُـنْتُ بِهِـنّ قِدْمًـا مُولَعًـا
الخَــمْرُ واللَّحْــمُ السِّــمِينُ إدَامُـهُ
والزَّعْفَــرَانُ, فَلَــنْ أرُوحَ مُبَقَّعَــا (42)
* * *
وأما " المكر "، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر .
----------------------
الهوامش :
(40) انظر تفسير (( شعر )) فيما سلف : ص : 38 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
(41) هو الأعشى .
(42) ديوانه 247 ، 248 ، وهي في نسختي المصورة من ديوان الأعشى رقم : 29 ، واللسان (حمر ) وهو أول الشعر . وكان في المطبوعة هنا : (( السمين أديمه )) ، و (( فلن أزال مبقعا )) ، وأثبت ما في المخطوطة وفي مخطوطة الأعشى : (( السمين ، وأطلى بالزعفران وقد أروح مبقعًا )) .
وهكذا جاء في المخطوطة : (( السمين إدامه )) ، والإدام ما يؤتدم به مع الخبز ، أي شيء كان .
وعجيب إضافة الإدام إلى اللحم . ويروى : (( أديمه )) ، ضبطه في اللسان بفتح الألف ، وهو غير مرتضى ، بل الصواب إن شاء الله (( أديمه )) من (( أدام الشيء )) ، إذا أطال زمانه واستمر به .
ورواية أبي جعفر هنا (( فلن أروح مبقعًا )) ، ورواية مخطوطة ديوانه : (( وقد أروح مبقعًا )) ، وهي أجودهما . و (( المبقع )) الذي فيه لون يخالف لونه ، أو لون ما أصابه الماء أو الزعفران أو ما شابههما . يعني أنه يكثر من الزعفران حتى يترك في بشرته لمعا . وأكثر ما كانوا يستعملون الزعفران في أعراسهم ، إذا أعرس الرجل تزعفر . فكني بذلك عن كثرة زواجه .
وفي البيت روايات أخرى ، راجعها في حواشي ديوانه ، في ذيل الديوان .