القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: (فرقوا) .
فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ما:
14252- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن دينار, أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: " إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ" .
14253- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه: " فَارَقُوا دِينَهُمْ" .
14254- . . . وقال، حدثنا الحسن بن علي, عن سفيان, عن قتادة: " فَارَقُوا دِينَهُمْ".
* * *
وكأن عليًّا ذهب بقوله: " فارقوا دينهم "، خرجوا فارتدوا عنه، من " المفارقة ".
* * *
وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود, كما:-
14255- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع, عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: (فَرَّقوا دِينَهُمْ) .
* * *
وعلى هذه القراءة = أعني قراءة عبد الله = قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد, وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة, ففرّق ذلك اليهود والنصارى, فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون, فجعلوه شيعًا متفرقة .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان, قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كل ضالّ فلدينه مفارق, وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده, فتهود بعض وتنصر آخرون, وتمجس بعض. وذلك هو " التفريق " بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين, فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. (52) فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب, غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة, وذلك تشديد " الراء " من " فرقوا " .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (إن الذين فرّقوا دينهم).
فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى .
* ذكر من قال ذلك:
14256- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: (وكانوا شيعًا)، قال: يهود .
14257- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه .
14258- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (فرقوا دينهم)، قال: هم اليهود والنصارى.
14259- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا)، من اليهود والنصارى.
14260- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء)، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله: (فارقوا دينهم)، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا . (53)
14261- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا)، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنـزل الله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) .
14262- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا)، يعني اليهود والنصارى .
14263- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي, عن شيبان, عن قتادة: " فارقوا دينهم "، قال: هم اليهود والنصارى .
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه .
* ذكر من قال ذلك:
14264- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: (إن الذين فرقوا دينهم)، قال: نـزلت هذه الآية في هذه الأمة . (54)
14265- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا)، قال: هم أهل الصلاة . (55)
14266- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء)، وليسوا منك, هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة . (56)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه, وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا, وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام: 161].
فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهودي ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم, فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء, وهو داخل في عموم قوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) .
* * *
وأما قوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم, ثم نسخها الأمر بقتالهم في" سورة براءة ", وذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .[ سورة التوبة: 5].
* ذكر من قال ذلك:
14267- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله)، لم يؤمر بقتالهم, ثم نسخت, فأمر بقتالهم في" سورة براءة " .
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة, لأنها خبرٌ لا أمر, والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي .
* ذكر من قال ذلك:
14268- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول, عن علي بن الأقمر, عن أبي الأحوص, أنه تلا هذه الآية: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء)، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم . (57)
14269- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم, عن مالك بن مغول, بنحوه .
14270- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو بدر, عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء) = قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية . (58)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: (لست منهم في شيء)، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء, ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم, لأنه غير محال أن في الكلام: " لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه, ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه, أو يقتله بيدك على كفره, ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه ". وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم, وقوله: (لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله)، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ = كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب: " اللطيف عن أصول الأحكام " . (59)
* * *
وأما قوله: (إنما أمرهم إلى الله)، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا, والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك, دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها, وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم =(ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)، (60) يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون, المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ .
--------------------
الهوامش :
(51) في المطبوعة : (( لا ينفع كافرًا )) بغير واو ، والسياق يقتضي إثباتها .
(52) انظر تفسير (( الشيع )) فيما سلف 11 : 419 .
(53) في المطبوعة والمخطوطة : (( فرقوا )) في الموضعين ، والتفسير في الأثر ، يوجب أن تكون (( فارقوا )) كما أثبتها .
(54) الأثران : 14264 ، 14265 - إسنادهما صحيح إلى أبي هريرة ، موقوفًا ، وانظر التعليق على الأثر التالي .
(55) كان في المطبوعة : (( هم أهل الضلالة )) ، كما سيأتي في الأثر التالي ، غير أن المخطوطة واضحة هنا (( أهل الصلاة )) ، فأثبتها كما هي ، لأنها صحيحة المعنى ، أي أنها نزلت في المؤمنين من أهل القبلة .
(56) الأثر : 14266 - (( سعيد بن عمرو السكوني )) شيخ الطبري ، مضى برقم : 5563 ، 6521 .
و (( بقية بن الوليد الحمصي )) ، ثقة ، نعوا عليه بالتدليس ، مضى برقم : 152 ، 5563 ، 6521 ، 6899 ، 9224 .
و (( عباد بن كثير الرملي الفلسطيني )) ، ضعيف الحديث . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 85 .
وهذا الخبر مرفوعًا لا يصح ، وهو ضعيف الإسناد . قال ابن كثير في تفسيره 3 : 438 : (( لكن هذا إسناد لا يصح ، فإن عباد بن كثير متروك الحديث . ولم يختلق هذا الحديث ، ولكنه وهم في رفعه ، فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث = وهو ابن أبي سليم = عن طاوس ، عن ابي هريرة في هذه الآية أنه قال : نزلت في هذه الأمة )) .
ولكن خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7 : 22 ، 23 ، ثم قال : (( رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله رجال الصحيح ، غير معلل بن نفيل ، وهو ثقة )) . وهكذا في مجمع الزوائد (( معلل بن نفيل )) ، وهو محرف بلا شك .
(57) الأثر : 14268 - (( مالك بن مغول البجلي ) ، ثقة : مضى برقم : 5431 ، 10872 و (( علي بن الأقمر الهمداني )) ، روى له الجماعة ، مضى برقم 11941 . وهو إسناد صحيح .
(58) الأثر : 14270 - (( شجاع ، أبو بدر )) ، هو (( شجاع بن الوليد بن قيس السكوبي )) ثقة صدوق . روى عنه أحمد . مترجم في التهذيب .
(( عمرو بن قيس الملائي )) . ثقة مضى مرارًا آخرها : 9646 .
وهذا إسناد منقطع ، (( عمرو بن قيس )) لم يدرك أم سلمة .
أما خبر (( مرة الطيب )) فهو (( مرة بن سراحيل الهمداني )) ، مضى مرارًا . آخرها : 7539 وروايته هذه أيضًا منقطعة . لأنه لم يدرك .
وخرج السيوطي في الدر المنثور 3 : 63 ، خبر أم سلمة . ونسبة إلى ابن منيع في مسنده وأبي الشيخ ، وخرج خبر مرة الطيب ، ونسبه إلى ابن أبي حاتم .
(59) انظر ما سلف في (( الناسخ والمنسوخ )) 10: 333 تعليق: 1 والمراجع هناك واسم كتاب أبي جعفر هو ما أثبت ، ما ورد في 5 : 414 ، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة (( اللطيف عن أصول الأحكام )) ، وهو لا يستقيم .
(60) انظر تفسير (( النبأ )) فيما سلف ص : 37 ، تعليق : 4 ، والمراجع هناك .