القول في تأويل قوله : فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم = " انتقمنا منهم ", يقول: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم، (63) وذلك عذابه = " فأغرقناهم في اليمّ", وهو البحر, كما قال ذو الرمة:
دَاوِيَّــةٌ وَدُجَــى لَيْــلٍ كَأَنَّهُمَــا
يَــمٌّ تَـرَاطَنُ فِـي حَافَاتِـهِ الـرُّومُ (64)
وكما قال الراجز: (65)
* كَبَاذِحِ الْيَمِّ سَقَاهُ الْيَمُّ * (66)
=(بأنهم كذبوا بآياتنا) يقول: فعلنا ذلك بهم بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي أريناهموها (67) =(وكانوا عنها غافلين)، يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم، غافلين قبل حلولها بهم أنّها بهم حالَّةٌ.
* * *
و " الهاء والألف " في قوله: " عنها "، كناية من ذكر " النقمة ", فلو قال قائل: هي كناية من ذكر " الآيات ", ووجّه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين = فجعل إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها, كان مذهبًا. يقال من " الغفلة ", " غفل الرجل عن كذا يغفُل عنه غَفْلة وغُفُولا وغَفَلا ". (68)
------------------
الهوامش :
(63) انظر تفسير (( الانتقام )) فيما سلف 11 : 47 ، 56 ، 57 .
(64) ديوانه : 576 ، من قصيدة باذخة ، وهذا البيت منها في صفه فلاة مخوفة ، يقول قبله : بَيْـنَ الرَّجَـا والرَّجَا من جَنْبٍ وَاصِيَةٍ
يَهْمَــاءَ خَابِطُهَـا بِـالخَوْفِ مَكْعُـومُ
لِلجِـنِّ بِـاللَّيْلِ فِـي حَافَاتِهَـا زَجَـلٌ
كَمَـا تَجَـاوَبَ يَـوْمَ الـرِّيحِ عَيْشُـومُ
هَنَّـا، وَهَنَّـا وَمِـنْ هَنَّـا لَهُـنَّ، بِهَا
ذَاتَ الشَّــمَائِلِ وَالأَيْمَــانِ هَيْنُــومُ
دَوِّيَّــةٌ وَدُجَـي لَيْـل .............
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(( الرجا )) الناحية . و (( الواصية )) ، فلاة تتصل بفلاة مخوفة أخري ، كأن بعضها يوصي بعضاً بالأهوال .و ((خابطها )) الساري فيها لايكاد يهتدي . (( يهماء )) ، مبهمة لايكاد المرء يهتدي فيها . و ((مكعوم )) مشدود الفم ، لايطيق أن ينطق من الرعب . و (( زجل الجن )) ، صوتها وعزيفها . و (( ا لعيشوم )) نبت له خشخشة إذا هبت عليه الريح . و(( الهينوم )) ، الهينمة وهو صوت تسمعه ولا تفهمه . يقول تأتيه هذه الأصوات من يمين وشمال . و (( الدوية )) و ، الداوية ، الفلاة التي يسمع فيها دوي الصوت ، لبعد أطرافها.وهذا شعر فاخر .
(65) هو العجاج .
(66) ديوانه : 63 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 227 ، من أرجوزة ذكر فيها مسعود بن عمرو العتكي الأزدي ، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج . فقال يذكر تميما وخزيمة ، وقيس عيلان حين اجتمعت كتائبهم وجيوشهم : وَأَصْحَــروا حــين اسْـتَجَمَّ الجَـمُّ
بِـــذِي عُبَــابٍ بَحــرُهُ غِطَــمُّ
كَبَــاذِخِ اليِـــمِّ سَــقَاهُ اليَــمُّ
لَـــهُ نَـــوَاحٌ وَلَـــه أُسْــطُمُّ
وكان في المطبوعة: (( كمادح اليم )) ، وهو خطأ ، لم يحسن قراءة المخطوطة ، وقوله : (( كباذخ اليم )) ، يعني موج البحر ، (( سقاه اليم )) ، أي : أمده اليم ، فهو لا يزال في علو وارتفاع . و (( الغطم )) ، البحر الكثير الماء الملتطم الموج . و (( أسطم البحر )) ، مجتمعه ووسطه ، حيث يضرب بعضه بعضاً من كثرته.
(67) انظر تفسير(( آية )) فيما سلف من فهارس اللغة ( أيي )
(68) انظر تفسير (( الغفلة )) فيما سلف 2 : 244 ، 316 / 3 : 127 ، 184 /9 : 162 ولم يبين فيما سلف هذا البيان الذي جاء به هنا .