{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس }
هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه ، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين ، فذكره الله بوعده نصرَه .
وقد أومأ جَعْلُ المسند إليه لفظ الرب مضافاً إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبيء وتصبيره ، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره؛ قال تعالى : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ].
فجملة { وإذ قلنا لك } الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] ويجوز أن تكون معترضة .
و ( إذ ) متعلقة بفعل محذوف ، أي اذكُرْ إذ قلنا لك كلاماً هو وعد بالصبر ، أي اذكر لهم ذلك وأعدهُ على أسماعهم ، أو هو فعل { اذكر } على أنه مشتق من الذُّكر بضم الذال وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة .
والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذاتتِ الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة ، كما في قوله تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم } في سورة [ يونس : 22 ]. وعُبِّرَ بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب . ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ].
والمعنى : فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم .
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] وما بينهما معترضات .
والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم ، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : هي رؤيا عَيْن أريها النبي ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، رواه الترمذي وقال : إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين ، سماهم الترمذي . وتأولها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين ، ورأى عِيرَهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف . ويؤيد هذا الوجه قوله : { التي أريناك } فإنه وصف للرؤيا ليُعلم أنها رؤية عين . وقيل : رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها .
وقيل : هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بَدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة . وعى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي .
والفتنة : اضطراب الرأي واختلال نظام العيش ، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق ، قال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] ، وقال : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ]. فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها سبب فتنة المشركين بازدياد بعدهم عن الإيمان ، ويكون على القول الثاني أن المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم .
{ والشجرة } عطف على الرؤيا ، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس . وهذا إشارة إلى قوله تعالى : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون } في سورة [ الصافات : 64 ، 66 ] ، وقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية } في سورة [ الدخان : 43 ، 44 ) ، وقوله : { إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم } في سورة [ الواقعة : 51 ، 52 ].
روي أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر؛ ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار . وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار . وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في { أسباب النزول } للواحدي و «تفسير الطبري» . وروي أن ابن الزبعرى قال : الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن ، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : تمزقوا . فعلى هذا التأويل فالمعنى : أن شجرة الزقوم سبب فتنة مكفرهم وانصرافهم عن الإيمان . ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على هذا الوجه أن ذكرها كان سببَ فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله : { الملعونة في القرآن } لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعْن لها .
ويجوز أن يكون المعنى : أن إيجادها فتنة . أي عذاب مكرر ، كما قال : { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [ الصافّات : 63 ].
والملعونة : أي المذمومة في القرآن في قوله : طعام الأثيم [ الدخان : 44 ] وقوله : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] وقوله : { كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم } [ الدخان : 45 46 ]. وقيل معنى الملعونة : أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة ، لأنها مخلوقة في موضع العذاب . وفي { الكشاف } : قيل تقول العرب لكل طعام ضار : ملعون .
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [ الإسراء : 59 ] الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون . وهذه زيادة في تسلية النبي حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات ، لأن النبي حريص على إيمانهم ، كما قال موسى عليه السلام { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ].
ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال : في الشجرة الملعونة بنو أمية . وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس ، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية ، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت . ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ].
وجيء بصيغة المضارع في نُخوِّفهم } للإشارة إلى تخويف حاضر ، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى : { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغياناً . فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات .
وقد اختير الفعل المضارع في نخوفهم } و { يزيدهم } لاقتضائه تكرر التخويف وتجدده ، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم .
والكبير : مستعار لِمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل قتال فيه كبير } في سورة [ البقرة : 217 ].