لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام ، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل . وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه ، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال . وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة [ البقرة : 26 ]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه .
فجملة { ولقد صرفنا } معطوفة على جملة { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز .
وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله ، فمورد التأكيد هو فعل { صرفنا } الدال على أنه من عند الله .
والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } [ الإسراء : 41 ].
وزيد في هذه الآية قيد { للناس } دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز ، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم .
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل { صرفنا } على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم ، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية ، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً . ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر . والأظهر كون التعريف في { الناس } للعموم كما يقتضيه قوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً }.
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله : { من كل مثل } بخلاف الآية السابقة ، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز ، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله ، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر ، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين ، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض ، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة [ البقرة : 23 ] { فأتوا بسورة من مثله } فإن ( من ) للتبعيض وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف ، أي من كل مثل شريف . والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل .
و ( من ) في قوله : { من كل مثل }. للتبعيض ، و ( كل ) تفيد العموم ، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل .
وحذف مفعول { أبى } للقرينة ، أي أبى العمل به .
وفي قوله : { إلا كفوراً } تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي تأكيد في صورة النقص ، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه ، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة . وهو استثناء مُفرغ لما في فعل { أبى } من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي ، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله : { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ].
والكُفور بضم الكاف المجحود ، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا .