لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس ، وكان إعراض المشركين عنه حرماناً عظيماً لهم من خيرات كثيرة ، ولم يكن من شأن أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير ، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خساراً مستغرباً من شأنه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك ، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان ، وذلك بعد الاشتغال بما هو فيه من نعمة هَويها وأولع بها ، وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لولا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصَارى المطلوب ، وما هي إلا إلى زوال قريب ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا } [ المزمّل : 11 ] وقوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل } [ آل عمران : 196 - 197 ].
فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها .
والتعريف في { الإنسان } تعريف الجنس ، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي ، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذٍ كفار وأكثر العرب مشركون . فالمعنى : إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا . وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاءً لأنفسهم وشكر النعمة من شِيمهم والصبر على الضر من خلقهم .
والمراد بالإنعام : إعطاء النعمة . وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق ، كما في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } [ الفاتحة : 7 ]. وقوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصدّيقين } [ النساء : 69 ].
والإعراض : الصد ، وضد الإقبال . وتقدم عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعِظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وقوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } في سورة [ الأنعام : 68 ].
والنأي : البعد ، وتقدم في قوله تعالى : { وينأون عنه } في سورة [ الأنعام : 26 ].
والجانب : الجنب . وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد ، وهما جانبان : يمين ويسار .
والباء في قوله : { بجانبه } للمصاحبة ، أي بَعِدَ مصاحباً لجانبه ، أي مبعداً جانبه . والبُعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء ، قال عنترة :
وكأنما ينأى بجانب دَفّها الْ ... وَحْشِيّ من هزج العشي مؤوم
فالمفاد من قوله : { وناء بجانبه } صد عن العبادة والشكر . وهذا غير المفاد من معنى { أعرض } فليس تأكيداً له ، فالمعنى : أعرض وتباعد .
وحذف متعلق { أعرض ونأى } لدلالة المقام عليه من قوله : { أنعمنا على الإنسان } ، أي أعرض عنا وأجفل منا ، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا .
وقرأ الجمهور { وناء } بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة .
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر { وناء } بألف بعد النون ثم همزة . وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف .
من ذلك قولهم : راء في رأى ، وقولهم : آرام في أرْام ، جمع رئم ، وقيل : ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل ، أي عن الشكر ، أي في معنى قوله تعالى : { ولكنه أخلد إلى الأرض } [ الأعراف : 176 ].
وجملة { وإذا مسه الشر كان يؤساً } احتراس من أن يتَوهم السامع من التقييد بقوله : { وإذا أنعمنا أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء ، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييَأس من الخير ويبقى حنقاً ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره .
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة [ فصلت : 51 ] { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } كما سيأتي هنالك .
ودل قوله : { كان يؤساً } على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة . وأقحم معه فعل ( كان ) الدال على رسوخ الفعل ، تعجيباً من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه ، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة .