عطف على جملة { وقل جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبيء ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله : { وإن كادوا ليفتنونك عن الذين أوحينا إليك } [ الإسراء : 73 ]. فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم ، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريباً إلى هلاك وأن دينهم صائر إلى الاضمحلال ، أعلن له ولهم في هذه الآية : أن ما منه غيظهم وحنقهم ، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء ، أنه لا يزال متجدداً مستمراً ، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة لأعدائه الظالمين ، ولأن القرآن مصدرُ الحق ومَدحَض الباطل أعقب قولُه : { جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] بقوله : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة } الآية . ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فَعَّلَ المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير ، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمناً طويلاً .
و { ما هو شفاء } مفعول { ننزل }. و { من القرآن } بيان لما في ( ما ) من الإبهام كالتي في قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] ، أي الرجس الذي هو الأوثان . وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله : ما هو شفاء ورحمة } إلخ ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه بحيث يعرف به . والمعنى : ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن . وليست ( مِن ) للتبعيض ولا للابتداء .
والشفاء حقيقته زوال الداء ، ويستعمل مجازاً في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيهاً له ببرء السقم ، كقول عنترة :
ولقد شَفَى نفسي وابرأ سُقمها ... قيلُ الفوارس : ويْكَ عنترَ قَدّمِ
والمعنى : أن القرآن كله شفاءً ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين ، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده ، كل آية من ذلك مشتملة على هَديٍ وصلاححِ حاللٍ للمؤمنين المتبعينَه ، ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم ، أي الشرك ، فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خساراً بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبُعْدِ ما بينهم وبين الإيمان . وهذا كقوله : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 124 - 125 ].
وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه . وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .
والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في { صحيح البخاري } و «جامع الترمذي» وغيرهما ، وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال :
« بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكباً فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلُدغ سيد الحَيّ فأتونا ، فقالوا: أفيكم أحد يَرقي من العقرب؟ قال : قلت : نعم ولكن لا أفعل حتى يُعطونا ، فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ » الحديث . وفيه : « حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال : وما يُدريكَ أنها رُقْيَة ، قلت : يا رسول الله شيءٌ ألقي في روعي ( أي إلهام ألهمه الله ) ، قال : كلوا وأطعمونا من الغنم » فهذا تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم بصحة إلهام أبي سعيد رضي الله عنه .