وجملة { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } من تمام الكلام المحكي ب { قال اذهب } [ الإسراء : 63 ]. وهي جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { فمن تبعك منهم } [ الإسراء : 63 ] وقوله : { واستفزز من استطعت منهم } [ الإسراء : 64 ] ، فإن مفهوم { من تبعك } و { من استطعت } [ الإسراء : 64 ] ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقاً من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه . وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان ، وذلك يثير سؤالاً في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علماً إجمالياً أن فريقاً لا يحتنكه لقوله : { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } [ الإسراء : 62 ]. فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب .
فأما الوصف ففي قوله : { عبادي } المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة ، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك .
وأما السبب ففي قوله : { وكفى بربك وكيلاً } المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان ، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه .
وفي هذا التوكل مراتب من الانفلات عن احتناك الشيطان ، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنّة .
فالسلطان المنفي في قوله : { ليس لك عليهم سلطان } هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده . وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات ، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله ، وتصديقهم رسوله ، واعتبارهم أنفسهم عباداً لله متطلبين شكر نعمته ، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدَةُ أهل الاعتزال . وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } في سورة [ النحل : 99 ، 100 ].
فالمؤمن لا يتولى الشيطانَ أبداً ولكنه قد ينخدع لوسواسه ، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر ، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه . وهذا معنى قول النبي في خطبة حجة الوداع : إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم .
فجملة وكفى بربك وكيلاً } يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان ، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلاً عليه بأنه عبدُ الله ، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً للنبيء بالإضافة إلى ضمير الله . ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار .