وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً ، وكما أشرنا إليه في سورة القصص ، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها ، وتقدم ذكر ( هامان ) والصرح هنالك .
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة ، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } [ طه : 48 ] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم ، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل . وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم ، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته ، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى : { فخرج على قومه من المحراب } [ مريم : 11 ] وقوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } [ آل عمران : 37 ] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد ، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم .
والأسباب : جمع سبب ، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد ، فيطلق السبب على الطريق ، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل . والمراد هنا : طرق السماوات ، كما في قول زهير :
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه ... وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم
وانتصب { أسباب السماوات } على البدل المطابق لقوله : { الأسباب . } وجيء بهذا الأسلوب من الاجمال ثم التفصيل للتشويق إلى المراد بالأسباب تفخيماً لشأنها وشأننِ عمله لأنه أمرٌ عجيب ليورَدَ على نفس متشوقة إلى معرفته وهي نفس ( هامان ) .
والاطّلاع بتشديد الطاء مبالغة في الطلوع ، والطلوع : الظهور . والأكثر أن يكون ظهوراً من ارتفاع ، ويعرف ذلك أو عدمُه بتعدية الفعل فإن عُدي بحرف ( على ) فهو الظهور من ارتفاع ، وإن عُدي بحرف ( إلى ) فهو ظهور مطلق .
وقرأ الجمهور : { فأَطَّلِعُ } بالرفع تفريعاً على { أبلغ } كأنه قيل : أبلغُ ثم اطَّلِعُ ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على جواب الترجي لمعاملة الترجي معاملة التمني وإن كان ذلك غير مشهور ، والبصريون ينكرونه كأنه قيل : متى بلغتُ اطلعتُ ، وقد تكون له ههنا نكتة وهي استعارة حرف الرجاء إلى معنى التمني على وجه الاستعارة التبعية إشارة إلى بُعْد ما ترجاه ، وجعل نصب الفعل بعده قرينة على الاستعارة .
وبيْن { إلى } و { إله } الجناسُ الناقص بحرففٍ كما ورد مرتين في قول أبي تمام
: ... يمُدُّون من أَيْد عَواصصٍ عَوَاصِمٍ
تَصُول بأسياف قَوَاضضٍ قَواضَبِ ... وجملة { وَإنِّي لأظُنُّه كاذبا } معترضة للاحتراس من أن يظن ( هامان ) وقومه أن دعوة موسى أوهنت منه يقينَه بدينه وآلهته وأنه يروم أن يبحث بحث متأمل ناظر في أدلة المعرفة فحقق لهم أنه ما أراد بذلك إلا نفي ما ادعاه موسى بدليل الحس . وجيء بحرف التوكيد المعزّز بلام الابتداء لينفي عن نفسه اتهام وزيره إياه بتزلزل اعتقاده في دينه . والمعنى : إني أفعل ذلك ليظهر كذب موسى .