فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
وجملة { فَلَمَّا جَاءَتْهُم رُسُلُهم بالبينات } الآية مفرعة على جملة { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يُصدقوهم فرأوا بأسنا . وجعلها في «الكشاف» جارية مجرى البيان والتفسير لقوله : { فَمَا أغنى عَنْهُم } ، وما سلَكْتُه أنا أحسن ومَوقع الفاء يؤيده .
ولِما في ( لَمَّا ) من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله . وجواب ( لمّا ) جملة { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلْمِ } وما عطف عليها .
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قِدداً ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين . وأنهاها صاحب «الكشاف» إلى ستّ ، ومال صاحب «الكَشف» إلى إحداها ، وأبو حيان إلى أُخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك .
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على { الَّذِينَ مِن قَبلِهم } وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد ، فالذين ( فَرحوا بما عندهم من العلم ) هم ( الذين جَاءتهم رُسُلهم بالبينات ) ، وهم الذين ( حَاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، والذين رأوا بأس الله ، فما بنا إلا أن نُبين معنى { فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِنَ العِلمِ } .
فالفَرَح هنا مكنّى به عن آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى : { إذ قال له قومه لا تفرح } [ القصص : 76 ] أي بما أنت فيه مكنىًّ به هنا عن تمسكهم بما هم عليه ، فالمعنى : أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر . وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أَهل الضلالة من أسلافهم .
قال مجاهد : قالوا لرسلهم : نحن أعلم منكم لن نُبعث ولن نُعذب اه . وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل . وقال السُدّي : فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم يعني فهو من قبيل قوله تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148 ] .
وحاق بهم : أحاط ، يقال : حاق يحيق حيقا ، إذا أحاط ، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مَفرجاً .
و { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهزِءُونَ } هو الاستئصال والعذاب . والمعنى : أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب ، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم ، وفي الإتيان ب { يستهزؤون } مُضارعاً إفادة لتكرر استهزائهم .