فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
وجملة { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } كالفذلكة لقوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُم إيمانهم لَمَّا رَأوا بَأْسَنا } ، وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة . و { هنالك } اسم إشارة إلى مكاننٍ ، استعير للإِشارة إلى الزمان ، أي خسروا وقتَ رؤيتهم بأسنا إذْ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل .
والعدول عن ضمير { الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهم كَانُوا هم أشَدَّ منهم قُوَّةً } [ غافر : 21 ] إلى الاسم الظاهر وهو الكافرون } إيماءٌ إلى أن سبب خسرانهم هو الكفر بالله وذلك إعذار للمشركين من قريش .
أسلوب سورة غافِر
أسلوبها أسلوبُ المحاجّة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله ، وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة ، وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا . وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمزٌ إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحدّاهم ، لذلك فلم يفعلوا ، كما تقدم في فاتحة سورة البقرة . وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلّع ما يأتي بعده للاهتمام به .
وكان في الصفات التي أجريت على اسم مُنزِّل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم ، وإيماء إلى تيسير إقلاعهم عن الكفر ، وترهيب من العقاب على الإِصرار ، وذلك كله من براعة الاستهلال . ثم تُخلص من الإِيماء والرمز إلى صَريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله .
وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمةٍ من أعظم الأمم السالِفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم ، وفي قلة المؤمنين منهم مثل مؤمن آل فرعون ، وتخلل ذلك ثَبات موسى وثَبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات .
وختمت بذكر أهل الضلال من الأمم السالفة الذين أَوْبقهم الإِعجابُ برأيهم وثقتهم بجهلهم فصمَّت آذانهم عن سماع حجج الحق ، وأعماهم عن النظر في دلائل الكون فحسبوا أنهم على كمال لا ينقصهم ما به حاجة إلى الكمال ، فحاق بهم العذاب ، وفي هذا رد العجز على الصدر . وخوّف الله المشركين من الانزلاق في مهواة الأولين بأن سنة الله في عباده الإِمهال ثم المؤاخذة ، فكان ذلك كلمة جامعة للغرض أذنت بانتهاء الكلام فكانت محسن الختام .
وتخلل في ذلك كلّه من المستطردات والانتقالات بذكر ثناء الملأ الأعلى على المؤمنين وثنائهم على الكافرين ، وذكر ما هم صائرون إليه من العذاب والندامة ، وتمثيل الفارق بين المؤمنين والكافرين ، وتشويه حال الكافرين في الآخرة ، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم وأن الله ناصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ، وأمْرَهم بالصبر والتوكل ، وأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم كشأن الرسل من قبله في لُقيان التكذيب وفي أنه يأتي بالآيات التي أجراها الله على يديه دون مقترحات المعاندين .