ثمّ اطّرد في التهكّم بهم والعَجببِ من أَفَن رأيهم مع تذكيرِهم بمساويهم فقال : { قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله } الخ . وشرّ اسم تفضيل ، أصله أشَرّ ، وهو للزيادة في الصفة ، حذفت همزته تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، والزّيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أنّ المسلمين لهم حظّ من الشرّ ، وإنّما جَرى هذا تهكّماً باليهود لأنّهم قالوا للمسلمين : لا دِينَ شَرّ من دينكم ، وهو ممّا عبّر عنه بفعل { تنقمون } . وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال : «قُلْتَ فأوْجبْت» .
والإشارة في قوله { من ذلك } إلى الإيمان في قوله : { هل تنقمون منّا إلا أن آمنّا بالله } الخ باعتبار أنّه منقوم على سبيللِ الفرض . والتّقدير : ولمّا كان شأن المنقوم أن يكون شرّاً بني عليه التهكّم في قوله : { هل أنبّئكم بشرّ من ذلك } ، أي ممّا هو أشدّ شرّاً .
والمثُوبة مشتقّة من ثَاب يثوب ، أي رجع ، فهي بوزن مفعولة ، سمّي بها الشيء الّذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمللٍ عملَه أو سعْي سعاه ، وأصلها مثوب بها ، اعتبروا فيها التّأنيث على تأويلها بالعطيّة أو الجائزة ثمّ حذف المتعلّق لكثرة الاستعمال .
وأصلها مؤذن بأنّها لا تطلق إلاّ على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه ، فلا تطلق على الضّرْب والشتم لأنّ ذلك ليس ممّا يثُوب به المرء إلى منزله ، ولأنّ العرب إنّما يبْنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم ، فلا يريدون بالمثوبة إلاّ عطية نافعة . ويصحّ إطلاقها على الشيء النّفيس وعلى الشيء الحقير من كلّ ما يثوب به المعطَى . فَجَعْلها في هذه الآية تمييزاً لاسم الزيادة في الشرّ تهكّم لأنّ اللّغة والغضب والمسخ ليست مثوبات ، وذلك كقول عمرو بن كلثوم :
قَرَيْنَاكم فعجَّلْنَا قِراكم ... قُبَيْلَ الصبح مِرْداة طحونا
وقول عمرو بن معديكرب :
وخيللٍ قد دَلَفتُ لها بِخيْل ... تَحِيَّةُ بَيْنهم ضرْب وَجِيع
وقوله : { مَن لَعَنَهُ الله } مبْتدأ ، أريد به بيان من هو شرّ مثوبة . وفيه مضاف مقدّر دلّ عليه السياق . وتقديره : مثوبةُ مَنْ لَعنهُ الله . والعدول عن أن يقال : أنتم أو اليهودُ ، إلى الإتيان بالموصول للعِلم بالمعنيّ من الصلة ، لأنّ اليهود يعلمون أنّ أسلافاً منهم وقعت عليهم اللّعنة والغضب من عهد أنبيائهم ، ودلائله ثابتة في التّوراة وكتب أنبيائهم ، فالموصول كناية عنهم .
وأمّا جعلهم قردة وخنازير فقد تقدّم القول في حقيقته في سورة البقرة . وأمّا كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العِجل .
والطاغوت : الأصنام ، وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النّساء ( 51 ) .
وقرأ الجمهور { وعبدَ الطاغوتَ } بصيغة فعل المضيّ في { عبد } وبفتح التّاء من { الطاغوت } على أنّه مفعول { عبد } ، وهو معطوف على الصّلة في قوله { من لَعنهُ الله } ، أي ومن عبدوا الطاغوت . وقرأه حمزة وحْده بفتح العين وضمّ الموحّدة وفتح الدّال وبكسر الفوقيّة من كلمة الطاغوت على أن «عَبُد» جمع عَبْد ، وهو جمع سماعي قليل ، وهو على هذه القراءة معطوف على { القردة والخنازير } .
والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتاً لهم عن التطاول . على أنّه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمانَ قيام الرسل والنبيئين بين ظهرانَيْهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالاً وأجدر بكونهم شرّاً ، فيكون الكلام من ذمّ القبيل كلّه . على أنّ كثيراً من موجبات اللّعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف ، على أنّهم شتموا المسلمين بما زعموا أنّه دينهم فيحقّ شتمهم بما نعتقده فيهم .