استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] لأنّ التحريم يقع في غالب الأحوال بأيْمان معزومة ، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام ، كأنْ يقول : والله لا آكل كذا ، أو تجري بسبب غضب . وقيل : إنّها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله . روى الطبري والواحدي عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عمّا عزموا عليه من ذلك ، كما تقدّم آنفاً ، قالوا : يا رسول الله ، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها ، فأنزل الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية . فشرع الله الكفّارة . وتقدّم القول في نَظير صدر هذه الآية في سورة البقرة . وتقدّم الاختلاف في معنى لغو اليمين . وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية { يأيّها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } [ المائدة : 87 ] ، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين . فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أنّ حادثة أولئك الذين حرّموا على أنفسهم بعض الطيّبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلّل من أيمانهم .
وقوله : { بما عَقَّدْتُمْ الأيمان } ، أي ما قصدتم به الحَلف . وهو يُبيّن مجمل قوله في سورة البقرة ( 225 ) { بما كَسَبَتْ قلوبُكم }
وقَرَأ الجمهورُ عقَّدتم } بتشديد القاف . وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف بتخفيف القاف . وقرأه ابن ذكوان عن ابننِ عامر { عَاقدتم } بألف بعد العين من باب المفاعلة . فأمّا { عقّدتم } بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عَقَد ، وكذلك قراءة { عاقدتم } لأنّ المفاعلة فيه ليست على بابها ، فالمقصود منها المبالغة ، مثل عافَاه الله . وأمّا قراءة التخفيف فلأنّ مادّة العقد كافية في إفادة التثبيت . والمقصود أنّ المؤاخذة تكون على نية التوثّق باليمين ، فالتعبير عن التوثّق بثلاثة أفعال في كلام العرب : عقَد المخفّف ، وعقَّد المشدّد ، وعَاقَد .
وقوله : { ذلك كفّارة أيمانكم } إشارة إلى المذكور ، زيادة في الإيضاح . والكفّارة مبالغة في كفَر بمعنى ستَر وأزال . وأصل الكَفْر بفتح الكاف الستر . وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة ، كتاء نسَّابة وعلاّمة . والعرب يجمعون بينهما غالباً .
وقوله : { إذا حلفتم } أي إذا حلفتم وأردتم التحلّل ممّا حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفّارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأنّ معنى الكفارة يقتضي حصول إثم ، وذلك هو إثم الحِنث .
وعن الشافعي أنّه استدلّ بقوله : { كفّارة أيمانكم إذا حلفتم } على جواز تقديم الكفّارة على وقوع الحنث ، فيحتمل أنّه أخذ بظاهر إضافة { كفّارة } إلى { أيمانكم } ، ويحتمل أنّه أراد أنّ الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفّر قبل الحنث لأنّه من تقديم العوض ، ولا بأس به .
ولا أحسب أنّه يعني غير ذلك . وليس مراده أنّ مجرّد الحلف هو موجب الكفّارة . وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحّة تقديم الكفّارة . وأصل هذا الحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث . ولم يستدلّ بالآية . فاستدلّ بها الشافعي تأييداً للسنّة . والتكفيرُ بعد الحنث أولى .
وعقّب الترخيص الذي رخّصه الله للنّاس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال { واحفظوا أيمانكم } . فأمر بتوخّي البرّ إذا لم يكن فيه حرج ولا ضُرّ بالغير ، لأنّ في البرّ تعظيم اسم الله تعالى . فقد ذكرنا في سورة البقرة أنّهم جرى معتادهم بأنّ يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر ، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلاّ يندموا عن عزمهم ، فكان في قوله { واحفظوا أيمانكم } زجر لهم عن تلك العادة السخيفة . وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلاّ يعرّض الحالف نفسه للحنث . والكفّارة ما هي إلاّ خروج من الإثم . وقد قال تعالى لأيّوب عليه السلام : { وخُذ بيدك ضِغثاً فاضرب به ولا تحنَث } [ ص : 44 ] . فنزّهه عن الحنث بفتوى خصّه بها .
وجملة { كذلك يبيّن الله لكم آياته } تذييل . ومعنى { كذلك } كهذا البيان يبيّن الله ، فتلك عادة شرعه أن يكون بيّناً ، وقد تقدّم القول في نظيره في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وتقدّم القول في معنى لعلّكم تشكرون } عند قوله تعالى : { يأيّها الناس اعبدوا ربّكم } في سورة البقرة ( 21 ) .