جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظُهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية ، وليست من القول المأمور به في قوله : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً } [ الأعراف : 188 ] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلْم الرسول بالغيب ، وقد تم ذلك ، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاماً موجهاً من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم .
ومناسبة الانتقالَ جريان ذكر اسم الله في قوله : { إلاّ ما شاء الله } [ الأعراف : 188 ] وضمير الخطاب في { خلقكم } للمشركين من العرب ، لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير ، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر ، وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ بخلق أصله وهو ءادم وزوجه حواء تمهيداً للمقصود .
وتعليق الفعل باسم الجمع ، في مثله ، في الاستعمال يقع على وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الكل المجموعي ، أي جملة ما يصدق عليه الضمير ، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفسَ آدم الذي تولد منه جميع البشر .
وثانيهما : أن يكون المراد الكل الجميعي أي خَلق كل أحد منكم من نفس واحدة ، فتكون النفس هي الأب ، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى : { يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [ الحجرات : 13 ] وقوله : { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ].
ولفظ { نفس واحدة } وحْدَه يحتمل المعنيين ، لأن في كلا الخلقين امتناناً ، وفي كليهما اعتباراً واتعاضاً .
وقد جعل كثير من المفسرين النفسَ الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد ، وهو المأثور عن الحسن ، وقتادة ، ومشى عليه الفخر ، والبيضاوي وابنُ كثير ، والأصم ، وابن المنير ، والجبائي .
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة ، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمّة ، ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالاً كثيراً ونساء ، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء .
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداماً في ضميري { تغشاها } وما بعده إلى قوله : { فيما آتاهما } وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين .
و ( من ) في قوله : { من نفس واحدة } ابتدائية .
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل ، لأن المقصود جعل الأنثى زوجاً للذكر ، لا الإخبارُ عن كون الله خلقها ، لأن ذلك قد علم من قوله : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة }.
و ( من ) في قوله : { وجعل منها } للتبعيض ، والمراد : من نوعها ، وقوله : { منها } صفة ل { زوجها } قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بأن جعل الزوج وهو الأنثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان .
وقوله : { ليسكن إليها } تعليل لما أفادته ( من ) التبعيضية .
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي : جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها ، ففي ذلك منة الإيناس بها ، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها ، فلو جعل الله التناسل حاصلاً بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله ، ولو جعله حاصلاً بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه ، بحيث لا تنصرف إليه إلاّ للاضطرار بعد التأمل والتردد ، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع ، وفُرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان .
وصيغت هذه الكنابة بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة .
وذُكِّر الضمير المرفوع في فعلي { يَسْكُنَ } و ( تغشى) : باعتبار كون ما صْدق المعاد ، وهو النفس الواحدة ، ذكراً ، وأنّث الضمير المنصوب في { تغشاها } ، والمرفوع في { حَملتْ }. و ( مرتْ) : باعتبار كون ما صْدق المعاد وهو زوجها أنثى ، وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر .
ووُصف الحمل ب { خفيفاً } إدماج ثان ، وهو حكاية للواقع ، فإن الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألماً ، وليس المراد هنا حملاً خاصّاً ، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله ، لأن المراد بالزوجين جنسهما ، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى ، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدىء خفيفاً كالعدم ، ثم يتزايد رويداً رويداً حتى يثقل ، وفي «الموطأ» «قال : مالك وكذلك ( أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف») : الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف ، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه { فبشرّناها بإسحاق } [ هود : 71 ] وقال : { حَملت حمْلاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتينا صالحاً لنكونن من الشاكرين }.
وحقيقة المرور : الاجتياز ، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى : { فلما كشفْنا عنه ضُره مر كأنْ لم يَدْعُنا إلى ضرَ مسّه } [ يونس : 72 ] أي : نسى دعاءنا ، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ].
وقال تعالى : { وكأيّنْ من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها مُعرضون } [ يوسف : 105 ].
فمعنى { فمرت به } لم تتفطن له ، ولم تفكر في شأنه ، وكل هذا حكاية للواقع ، وهو إدماج .
والإثْقاللِ ثَقل الحمل وكلفته ، يقال أثقلت الحامل فهي مُثقل وأثقل المريض فهو مُثقل ، والهمزة للصيرورة مثل أوْرَقَ الشجر ، فهو كما يقال أقْرَبت الحامل فهي مُقْرب إذا أقرب أبان وضعها .
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب : لما فيه من التذكير بتلك الأطوار ، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته ، وبلطفه بالإنسان .
وظاهر قوله : { دَعَوَا الله ربهما } أن كل أبوين يَدعوان بذلك ، فإن حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح ، سواء نطقاً بذلك أم أضمراه في نفوسهما ، فإن مدة الحمل طويلة ، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها ، وإنما يكون التمني منهم على الله ، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية ، وبأنه هو خالق المخلوقات ومُكونها ، ولا حظ للآلهة إلاّ في التصرفات في أحوال المخلوقات ، كما دلت علبه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى :
{ قل هل من شركائكم من يَبْدَؤا الخلق ثم يعيده } [ يونس : 34 ] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون في الأنعام ( 1 ).
وإن حمل دَعوا } على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر بيبالهم الدعاء .
وإجراء صفة { ربهما } المؤذنة بالرفق والإيجاد : للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله ، أي يَذكرَ أنه باللفظ أو ما يفيد مفاده ، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا : ربنا آتنا صالحاً .
وجملة : { لئن آتيتنا صالحاً } مبيّنة لجملة { دَعَوَا الله }.
و { صالحاً } وصف جرى على موصوف محذوف ، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره : ( ذكراً ) وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } [ النحل : 57 ] أي الذكور .
فالدعاء بأن يؤتَيا ذكراً ، وأن يكون صالحاً ، أي نافعاً : لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق ، ويَنذران : لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين .