والخسران حقيقته ضد الرّبح ، وهو عدم تحصيل التّاجر على ما يستفضله من بيعه ، ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النّفع ، فمعنى { خسروا أَنفُسَهُم } فقدوا فوائدها ، فإن كلّ أحد يرجو من مواهبه ، وهي مجموع نفْسِه ، أن تجلب له النّفع وتدفع عنه الضرّ : بالرأي السَّديد ، وابتكار العمل المفيد ، ونفوس المشركين قد سوّلت لهم أعمالاً كانت سبب خفّة موازين أعمالهم ، أي سبب فقد الأعمال الصّالحة منهم ، فكانت نفوسهم كرأسسِ مال التّاجر الذي رجا منه زيادة الرّزق فأضاعه كلّه فهو خاسر له ، فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم ، وانظر ما تقدّم في قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في سورة الأنعام ( 20 ). وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } في سورة البقرة ( 16 ).
والباء في قوله : بما كانوا } باء السّببيّة ، وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدّنيا ، فصيغة المضارع في قوله : { يظلمون } لحكاية حالهم في تجدّد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه } [ فاطر : 9 ].
والظلم هنا ضدّ العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقّها من الصدق . وضمن { يظلمون } معنى يُكَذّبون ، فلذلك عُدّي بالباء ، فكأنّه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظُلماً وعلواً } [ النمل : 14 ].
وإنّما جعل تكذيبهم ظلما لأنّه تكذيب ما قامت الأدلّة على صدقه فتكذيبه ظلم للأدلّة بدحضها وعدم إعمالها .
وتقديم المجرور في قوله : { بآياتنا } على عامله ، وهو { يظلمون } ، للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصّالحين وحال المكذّبين المشركين إذ كان النّاس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين ، وهم كلّهم عاملون بالصّالحات ، مستكثرون منها ، وفريق المشركين وهم أخلياء من الصّالحات ، وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وذلك لم تتعرّض له هذه الآية ، إذ ليس من غرض المقام ، وتعرّضت له آيات آخرى .