والتبديل : التعويض ، فحقه أن يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء المفيدة معنى البدلية ويكون ذلك المفعول الثاني المدخول للباء هو المتروك ، والمفعول الأول هو المأخوذ ، كما في قوله تعالى : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } في سورة البقرة ( 61 ) ، وقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } في سورة النساء ( 2 ) ، لذلك انتصب الحسنة } هنا لأنها المأخوذة لهم بعد السيّئة فهي المفعول الأول والسيّئة هي المتروكة ، وعدل عن جر السيئة بالباء إلى لفظ يؤدي مُؤَدى باء البدلية وهو لفظ ( مكان ) المستعمل ظرفاً مجازاً عن الخلَفية ، يقال خذ هذا مكانَ ذلك ، أي : خذه خلفاً عن ذلك لأن الخلَف يحل في مكان المخلوف عنه ، ومن هذا القبيل قول امرىء القيس :
وبُدلْتُ قُرحاً دامياً بعد نعمة ... فجعل ( بعدَ ) عوضاً عن باء البدلية .
فقوله : { مكانَ } مَنصوب على الظرفية مجازاً ، أي : بَدلناهم حسنة في مكان السيّئة ، والحسنة اسم اعتبر مؤنثاً لتأويله بالحالة والحادثة وكذلك السيئة فهما في الأصل صفتان لموصوف محذوف ، ثم كثر حذف الموصوف لقلة جدوى ذكره فصارت الصفتان كالاسمين ، ولذلك عبر عن الحسنة في بعض الآيات بما يُتَلَمّح منه معنى وصفيّتها نحو قوله تعالى : { ولا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسنُ } [ فصلت : 34 ] أي : ادفع السيّئة بالحسنة ، فلما جاء بطريقة الموصولية والصلة بأفعل التفضيل تُلمح معنى الوصفية فيهما ، وكذلك قوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن السيّئة } [ فصلت : 34 ]. ومثلهما في هذا المصيبة ، كما في قوله تعالى في سورة براءة ( 50) : { إن تُصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } أي : بدّلناهم حالة حسنة بحالتهم السيّئة وهي حالة البأساء والضراء .
فالتعريف تعريف الجنس ، وهو مشعر بأنهم أعطوا حالة حسنة بطيئة النفع لا تبلغ مبلغ البركة .
و { حتى } غاية لما يتضمنه { بدّلنا } من استمرار ذلك وهي ابتدائية ، والجملة التي بعدها لا محل لها .
و { عَفْوا } كثُروا . يقال : عفا النبات ، إذا كثر ونما ، وعطف { وقالوا } على { عفوا } فهو من بقية الغاية .
والسّرّاء : النعمة ورَخاء العيش ، وهي ضد الضراء .
والمعنى أنا نأخذهم بما يغير حالهم التي كانوا فيها من رخاء وصحة عسى أن يعلموا أن سلب النعمة عنهم أمارة على غضب الله عليهم من جرّاء تكذيبهم رسولهم فلا يهتدون ، ثم نردهم إلى حالتهم الأولى إمهالاً لهم واستدراجاً فيزدادون ضلالاً ، فإذا رأوا ذلك تعللوا لما أصابهم من البؤس والضر بأن ذلك التغيير إنما هو عارض من عوارض الزمان وأنه قد أصاب أسلافهم من قبلهم ولم يَجئهم رسُل .
وهذه عادة الله تعالى في تنبيه عباده ، فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب ، كما قال تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } [ التوبة : 126 ] لأن الله لما وهب الإنسان العقل فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال .
وظاهر الآية : أن هذا القول صادر بألسنتهم وهو يكون دائراً فيما بين بعضهم وبعض في مجادلتهم لرسُلهم حينما يعظونهم بما حلّ بهم ويدْعونهم إلى التوبة والإيمان ليكشف عنهم الضر .
ويجوز أن يكون هذا القول أيضاً : يجيش في نفوسهم ليدفعوا بذلك ما يخطر ببالهم من توقع أن يكون ذلك الضر عقاباً من الله تعالى ، وإذ قد كان محكياً عن أمم كثيرة كانت له أحوال متعددة بتعدد ميادين النفوس والأحوال .
وحاصل ما دفعوا به دلالة الضراء على غضب الله أن مثل ذلك قد حل بآبائهم الذين لم يدْعُهم رسول إلى توحيد الله ، وهذا من خطأ القياس وفساد الاستدلال ، وذلك بحصر الشيء ذي الأسباب المتعددة في سبب واحد ، والغفلة عن كون الأسباب يخلف بعضها بعضاً ، مع الغفلة عن الفارق في قياس حالهم على حال آبائهم بأن آباءهم لم يأتهم رسُل من الله ، وأما أقوام الرسل فإن الرسل تحذرهم الغضب والبأساء والضراء فتحيق بهم ، أفلا يَدلُهم ذلك على أن ما حصل لهم هو من غضب الله عليهم ، على أن غضب الله ليس منحصر الترتب على معصية الرسول بل يكون أيضاً عن الانغماس في الضلال المبين ، مع وضوح أدلة الهدى للعقول ، فإن الإشراك ضلال ، وأدلة التوحيد واضحة للعقول ، فإذا تأيدت الدلالة بإرسال الرسل المنذرين قويت الضلالة باستمرارها ، وانقطاع أعذارها ، ومثل هذا الخطأ يعرض للناس بداعي الهوى وإلف حال الضلال .
والفَاء في قوله : { فأخذناهم } للتعقيب عن قوله : { عَفَوْا } ، و { قالوا } ، باعتبار كونهما غاية لإبدال الحسنة مكان السيئة ، ولا إشعار فيه بأن قولهم ذلك هو سبب أخذهم بغتة ولكنه دل على إصرارهم ، أي : فحصل أخذنا إياهم عقب تحسن حالهم وبَطرهم النعمة .
والتعقيب عرفي فيصدق بالمدة التي لا تعد طولاً في العادة لحصول مثل هذه الحوادث العظيمة .
والأخذ هنا بمعنى الإهلاك كما في قوله تعالى : { أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون } في سورة الأنعام ( 44 ).
والبغتة : الفجْأة ، وتقدمت عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } [ الأنعام : 31 ] ، وفي قوله : { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } في سورة الأنعام ( 44 ) ، وتقدم هنالك وجه نصبها .
وجملة : وهم لا يشعرون } حال مؤكدة لمعنى { بغتة }.