وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته .
( إما ) هذه هي ( إنْ ) الشرطية اتصلت بها ( ما ) الزايدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتِها ، نحو ( مهما ) فإن أصلها مَاما ، ونحو ( إذما ) و ( أينما ) و ( أيانَما ) و ( حيثما ) و ( كيفما ) فلا جرم أن ( مَا ) إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوةَ شرطية فلذلك كتبت ( إما ) هذه على صُورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن ( مَا ).
والنزغ النخس والغرز ، كذا فسره في «الكشاف» وهو التحقيق ، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده ، ( قلتَ : وقريبٌ منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشْم ) قال ابن عطية «وقلّما يُستعمل في غير فعل الشيطان { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [ يوسف : 100 ].
وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة : شبه حدوث الوسوسه الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي ، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة .
والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سوّل لك الأخذ بالمعاقبة أوْ سَوّل لك تركَ أمرهم بالمعروف غضباً عليهم أو يأساً من هداهم ، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به .
والاستعاذة مصدر طَلب العوذ ، فالسين والتاء فيها للطلب ، والعوذ : الإلتجاء إلى شيء يدفع مكروهاً عن الملتجيء ، يقال : عاذ بفلان ، وعاذ بالحرَم ، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عَاذ من أجله .
فأمرَ الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله ، والعوذُ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة ، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة ، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه ، فإن ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة ، فإن العصمة من الذنوب حاصلة له ، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لادامتها عليه ، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث «صحيح مسلم» " إنه ليُغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة " فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه ، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعاً في زلة تصدر عن أحدهم ، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم ، ولكنه لا يفارقه رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم ، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها ، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى . روى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن وقرينُه من الملائكة "
قالوا وأنت يا رسول الله ، قال " وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم " روي قوله : «فأسْلم» بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية ، صار الشيطان المقارن لهُ مُسلماً ، وهي خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم وروي بضم الميم بصيغة المضارع ، والهمزة للمتكلم : أي فأنا أسْلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفاً عليه . وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل .
وجملة : { إنه سميع عليم } في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما هو شأن حرف ( إن ) إذا جاء في غير مقام دَفع الشك أو الإنكارِ ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه ، والمراد : التعليل بِلازم هذا الخبر ، وهو عوذه مما استعاذه منه ، أي : أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم .
و«السميع» : العالم بالمسموعات ، وهو مراد منه معناه الكنائي ، أي عليم بدعائك مستجيب قابِل للدعوة ، كقول أبي ذؤيب :
دَعاني إليها القلب إني لامْرِه ... سَميع فما أدْري أرُشْدٌ طِلابُها
أي ممتثل ، فوصفُ { سميع } كناية عن وعد بالإجابة .
وإتْباعه بوصف { عليم } زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها ، لأن وصف { سميع } دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم ، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عنايه الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوُه ، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله : { فإنك بأعْيُننا } [ الطور : 48 ] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكرِ وإظهارِ الحاجة إلى الله تعالى .