يجوز أن يكون { الذين قال لهم الناس } إلى آخره ، بدلاً من { الذين استجابوا لله والرسول } [ آل عمران : 172 ] ، أو صفة له ، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله : { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [ آل عمران : 171 ] على طريقة ترك العطف في الأخبار . وإنَّما جيء بإعادة الموصول ، دون أن تعطف الصلة على الصلة ، اهتماماً بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلةٍ ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنففٍ ، فيكون مبتدأ وخبره قوله : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } [ آل عمران : 175 ] أي ذلك القول ، كما سيأتي . وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يَوم أحُد بعاممٍ ، إنجازاً لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال : مَوعدكم بدر في العام القابل ، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل ، وكاد للمسلمين ليُظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين ، فجَاعَل ركباً من عبدِ القيس مارينَ بمَرّ الظَّهْرانَ قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة ، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشاً جمعوا لهم جيشاً عظيماً ، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي ، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعداداً وحميّة للدين ، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر ، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك ، وكانت هنالك سوق فاتّجَرُوا ورجعوا سالمين غير مذمومين ، فذلك قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس أي الركب العَبْدِيُّون إن الناس قد جمعوا لكم } أي إنّ قريشاً قد جمعوا لكم . وحذف مفعول { جمعوا } أي جمعوا أنفسهم وعُددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول .
وقال بعض المُفسّرين وأهل العربية : إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نُعيم بن مسعود وأبي سفيان ، وجعلوه شاهداً على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله ، وإطلاق لفظ الناس مراداً به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام ، ومنه قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] قال المفسّرون : يعني ب ( الناس ) محمداً صلى الله عليه وسلم
وقوله : { فزادهم إيماناً } أي زادهم قول الناس ، فضمير الرفع المستتر في { فزادهم } عائد إلى القول المستفاد من فعل { قال لهم الناس } أو عائد إلى الناس ، ولمّا كان ذاك القول مراداً به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم . وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون ، جُعل ما حصل به زائداً في إيمان المسلمين . فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل ، أي العزم على النصر والجهاد ، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص . ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة ، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان ، كما قال تعالى : { وما كان اللَّه ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] يعني صَلاتكم . أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول ، فلا يقبل النقص ، ولا يقبل الزيادة ، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى ، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته ، أو طال زمانه ، أو قارنته التجارب ، يزداد جلاء وانكشافاً ، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة ، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة ، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة ، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام :
{ بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } [ البقرة : 260 ]
وقولهم : { حسبنا الله ونعم الوكيل } كلمة لعلّهمُ ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحسب أي كاف ، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل ، قالوا : ومنه اسمه تعالى الحَسيب ، فهو فعيل بمعنى مُفعل . وقيل : الإحساب هو الإكفاء ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى كفى ، وهو ظاهر القاموس . وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو { فإنّ حسبك الله } ، وقولهم : بحسبك درهم ، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل ، وقيل : هو مصدر ، وهو ظاهر كلام سيبويه . وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظاً دون معنى ، فيبنى على الضمّ مثل : قبلُ وبعدُ ، كقولهم : اعطه درهيمن فَحَسْبُ ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير . وإضافته لا تفيده تعريفاً لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة ، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمعُ ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابَه المصدر ، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر ، أو لأنّه مصدر ، ، وهو شأن المصادر ، ومَعناها : إنّهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قِلّة وضعف .
وجملة { ونعم الوكيل } معطوفة على { حسبنا الله } في كلام القائلين ، فالواو من المحكي لا من الحكاية ، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة . والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله .
و { الوكيل } فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه . يقال : وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها ، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه : رَجل وَكَل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره ، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله ، وهذا القيام بشأن الموكِّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها ، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل ، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع { قل لست عليكم بوكيل } [ الأنعام : 66 ] ، ومنه { فمن يجادل اللَّه عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً } [ النساء : 109 ] . ومنه الوكيل في الخصومة ، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه : { أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً } [ الإسراء : 2 ] كما قال : { قد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] ولذلك كان من أسمائه تعالى : الوكيل ، وقولُه : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومنه الوكيل على المال ، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضاً اسم الكفيل في قوله تعالى : { وقد جعلتم اللَّه عليكم كفيلاً } .
وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى : { وهو على كل شيء وكيل } في سورة [ الأنعام : 102 ] ، فقال : وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال . وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يُعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها ، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات .