أبدل { الذين قالوا إن الله عهد } من { الذين قالوا إن الله فقير } [ آل عمران : 181 ] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم ، وهي كذبهم على الله في أنّه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أنّ لا يؤمنوا لرسول حتّى يأتيهم بقربان ، أي حتّى يذبح قرباناً فتأكله نار تنزل من السماء ، فتلك علامة القبول ، وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذُبح أوّل قربان على النحو الذي شَرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرّب فأحرقتْه . كما في سفر اللاويين . إلاّ أنه معجزة لا تطّرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأنّ معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمّة . وفي الحديث : « ما من الأنبياء نبيء إلاّ أوتي من الآيات ما مثله آمَن عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيتُ وحْياً أوحى الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعاً يوم القيامة » فقال الله تعالى لنبيّه : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم } .
وهذا الضرب من الجدل مبنيّ على التسليم ، أي إذا سلّمنا ذلك فليس امتناعكم من اتّباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنّكم قد كذّبتم الرسل الذين جاؤوكم بها وقتلتموهم ، ولا يخفي أنّ التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شكّ أنّ بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم ، مثل زكرياء ويحيى وأشعياء وأرمياء ، فالإيمان بهم أوّل الأمر يستلزم أنهم جاؤوا بالقُربان تأكله النار على قولهم ، وقتلهم آخراً يستلزم أنّ عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم ، فلا عجب أن يأتي خلَفُهم بمثل ما أتى به سلفهم .
وقوله : { إن كنتم صادقين } ظاهر في أنّ ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب ومعاذير باطلة .
وإنّما قال : { وبالذي قلتم } عُدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلاً عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى : { وقال لأوتينّ مالاً وولَداً إلى قوله : ونرثه ما يقول } [ مريم : 77 ، 80 ] أي نرث ماله وولده .