تنوير - Tanweer   سورة  آل عمران الأية 96


سورة Sura   آل عمران   Aal-Imran
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) ۞ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ۗ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
الصفحة Page 62
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)

هذا الكلام واقع موقع التّعليل للأمر في قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ آل عمران : 95 ] لأنّ هذا البيت المنوّه بشأنه كان مقاماً لإبراهيم ففضائل هذا البيتتِ تحقّق فضيلة شرع بانيه في متعارف النَّاس ، فهذا الاستدلال خطابي ، وهو أيضاً إخبار بفضيلة الكعبة ، وحرمتها فيما مضى من الزّمان .

وقد آذن بكون الكلام تعليلاً موقع ( إنّ ) في أوّله فإنّ التأكيد بإنّ هنا لمجرّد الاهتمام وليس لردّ إنكار منكر ، أو شكّ شاكّ .

ومن خصائص ( إنّ ) إذا وردت في الكلام لمجرّد الاهتمام ، أن تغني غَناء فاء التفريع وتفيد التَّعليل والربط ، كما في دلائل الإعجاز .

ولِمَا في هذه من إفادة الربط استغني عن العطف لكون ( إنّ ) مؤذنة بالربط . وبيانُ وجه التعليل أن هذا البيت لمّا كان أوّل بيت وضع للهُدى وإعلان توحيد الله ليكون علماً مشهوداً بالحسّ على معنى الوحدانية ونفي الإشراك ، فقد كان جامعاً لدلائل الحنيفية ، فإذا ثبت له شرف الأولية ودوام الحرمة على ممرّ العصور ، دون غيره من الهياكل الدينية الَّتي نشأت بعده ، وهو مائل ، كان ذلك دلالة إلهية على أنَّه بمحلّ العناية من الله تعالى ، فدلّ على أنّ الدّين الَّذي قارن إقامته هو الدّين المراد لله ، وهذا يؤول إلى معنى قوله : { إن الدين عند اللَّه الإسلام } [ آل عمران : 19 ] .

وهذا التَّعليل خطابي جار على طريقة اللُّزوم العرفي .

وقال الواحدي ، عن مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقالت اليهود : بيت المَقْدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنَّه مُهَاجر الأنبياء وفي الأرض المقدّسة وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله هذه الآية .

و { أوَّل } اسم للسابق في فِعللٍ مَّا فإذا أضيف إلى اسم جنس فهو السابق من جنس ذلك المضاف إليه في الشأن المتحدّث عنه .

والبيت بناء يأوِي واحداً أو جماعة ، فيكون بيتَ سكنى ، وبيت صلاة ، وبيت ندوة ، ويكون مبنياً من حَجَر أو من أثواببِ نسيج شعر أو صوف ، ويكون من أدم فيسمّى قبَّة قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } [ النحل : 81 ] .

ومعنى { وُضع } أسّسَ وأثْبِتَ ، ومنه سمّي المكان موضعاً . وأصل الوضع أنَّه الحطّ ضدّ الرفع ، ولمَّا كان الشيء المرفوع بعيداً عن التناول ، كان الموضوع هو قريب التناول ، فأطلق الوضع لمعنى الإدناء للمتناول ، والتَّهيئة للانتفاع .

و ( النَّاس ) تقدّم في قوله تعالى : { ومن النَّاس من يقول آمنا باللَّه } في سورة [ البقرة : 8 ] .

{ بكّة } اسم مكَّة . وهو لغة بإبدال الميم باء في كلمات كثيرة عدّت من المترادف : مثل لازب في لازم ، وأربد وأرمد أي في لون الرماد ، وفي سماع ابن القاسم من العتبية عن مالك : أنّ بكة بالباء اسم موضع البيت ، وأنّ مكَّة بالميم اسم بقية الموضع ، فتكون باء الجرّ هنا لظرفية مكان البيت خاصّة .

لا لسائر البلد الَّذي فيه البيت ، والظاهر عندي أنّ بكة اسم بمعنى البلدة وضعه إبراهيم علماً على المكان الَّذي عيّنه لسكنى ولده بنيّة أن يكون بلداً ، فيكون أصله من اللغة الكلدانية ، لغة إبراهيم ، ألا ترى أنَّهم سمّوا مدينة ( بعلبك ) أي بلد بَعل وهو معبود الكلدانيين ، ومن إعجاز القرآن اختيار هذا اللَّفظ عند ذكر كونه أوّل بيت ، فلاحظ أيضاً الاسم الأوّل ، ويؤيّد ذلك قوله : { ربّ هذه البلدة } [ النمل : 91 ] وقوله : { ربّ اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] . وقد قيل : إنّ بكّة مشتقّ من البَكّ وهو الازدحام ، ولا أحسب قصد ذلك لواضع الاسم .

وعدل عن تعريف البيت باسمه العلَم بالغلبة ، وهو الكعبة ، إلى تعريفه بالموصولية بأنَّه ( الَّذي ببكة ) : لأنّ هذه الصّلة صارت أشهر في تعيّنه عند السامعين ، إذ ليس في مكّة يومئذ بيت للعبادة غيره ، بخلاف اسم الكعبة : فقد أطلق اسم الكعبة على القليس الَّذي بناه الحبشة في صنعاء لدين النصرانية ولقّبوه الكعبة اليمانية .

والمقصود إثبات سبق الكعبة في الوجود قبل بيوت أخر من نوعها . وظاهر الآية أنّ الكعبة أوّل البيوت المبنيّة في الأرض ، فتمسّك بهذا الظَّاهر مجاهد ، وقتادة ، والسّدي ، وجماعة ، فقالوا : هي أوّل بناء ، وقالوا : إنَّها كانت مبنيّة من عهد آدم عليه السلام ثُمّ درست ، فجددها إبراهيم ، قال ابن عطية : ورويت في هذا أقاصيص أسانيدها ضعاف فلذلك تركتُها ، وقد زعموا أنَّها كانت تسمّى الضُراح بوزن غراب ولكنّ المحقّقين وجمهور أهل العلم لم يأخذوا بهذا الظاهر ، وتأوّلوا الآية . قال عليّ رضي الله عنه : «كان قبل البيت بيوت كثيرة» ولا شكّ أنّ الكعبة بناها إبراهيم وقد تعدّد في القرآن ذكر ذلك ، ولو كانت من بناء الأنبياء قبله لزيد ذكر ذلك زيادة في التنويه بشأنها ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن يكون أوّل بناء وقع في الأرض كان في عهد إبراهيم ، لأنّ قبل إبراهيم أمماً وعصوراً كان فيها البناء ، وأشهر ذلك برج بابل ، بُنِي إثر الطوفان ، وما بناه المصريّون قبل عهد إبراهيم ، وما بناه الكلدان في بدل إبراهيم قبل رحلته إلى مصر ، ومن ذلك بيت أصنامهم ، وذلك قبل أن تصير إليه هاجَر الَّتي أهداها له ملك مصر ، وقد حكى القرآن عنهم { قالوا ابْنُوا له بنياناً فَألْقُوه في الجحيم } [ الثافات : 97 ] فتعيّن تأويل الآية بوجه ظاهر ، وقد سلك العلماء مسالك فيه : وهي راجعة إلى تأويل الأوّل ، أو تأويل البيت ، أو تأويل فعل وُضع ، أو تأويل النَّاس ، أو تأويل نظم الآية ، والَّذي أراه في التأويل أنّ القرآن كتاب دين وهُدى ، فليس غرض الكلام فيه ضبط أوائل التَّاريخ ، ولكن أوائل أسباب الهدى ، فالأوَّلية في الآية على بابها ، والبيت كذلك ، والمعنى أنَّه أوّل بيت عبادة حقّة وضع لإعلان التَّوحيد ، بقرينة المقام ، وبقرينة قوله : { وُضع للنَّاس } المقتضى أنَّه من وضععِ واضععٍ لمصلحة النَّاس ، لأنَّه لو كان بيت سكنى لقيل وضعه النَّاس ، وبقرينة مجيء الحالين بعدُ؛ وهما قوله : { مباركاً وهدى للعالمين } .

وهذا تأويل في معنى بيت ، وإذا كان أوّلَ بيتتِ عبادة حقَ ، كان أوّل معهد للهدى ، فكان كُلّ هدى مقتبساً منه فلا محيص لكلّ قوم كانوا على هدى من الاعتراف به وبفضله ، وذلك يوجب اتّباع الملّة المبنيّة على أسس ملّة بانيه ، وهذا المفاد من تفريع قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } [ البقرة : 95 ] . وتأوّل الآية عليّ بن أبي طالب ، فروى عنه أنّ رجلاً سأله : أهو أوّل بيت؟ قال : «لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً وهدى» فجعل مباركاً وهدى حالين من الضمير في { وُضع } لا من اسممِ الموصول ، وهذا تأويل في النظم لا ينساق إليه الذهن إلاّ على معنى أنَّه أوّل بيت من بيوت الهدى كما قلنا ، وليس مراده أنّ قوله : { وضع } هو الخبَر لتعيّن أن الخبر هو قوله : { للذي ببكة } بدليل دُخول اللاّم عليه .

وعن مجاهد قالت اليهود : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنَّها مهاجَر الأنبياء ، وقال المسلمون : الكعبة ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا تأويل { أول } بأنَّه الأوّل من شيئين لا من جنس البيوت كلّها .

وقيل : أراد بالأول الأشرف مجازاً .

وعندي أنَّه يجوز أن يكون المراد من النَّاس المعهودين وهم أهل الكتب أعني اليهود والنَّصارى والمسلمين ، وكلّهم يعترف بأصالة دين إبراهيم عليه السلام ، فأوّل معبد بإجماعهم هو الكعبة فيلزمهم الاعتراف بأنَّه أفضل ممَّا سواه من بيوت عبادتهم .

وإنَّما كانت الأوّلية موجِبة التّفضيل لأنّ مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة العبادة ، إذ هي في ذلك سواء ، ولكنَّها تتفاضل بما يحفّ بذلك من طول أزمان التعبّد فيها ، وبنسبتها إلى بانيها ، وبحسن المقصد في ذلك ، وقد قال تعالى في مسجد قُبَاء : { لمَسجِدٌ أسِّسَ على التَّقوَى من أوّل يوم أحقّ أن تقوم فيه } [ التوبة : 108 ] .

وقد جمعت الكعبة جميع هذه المزايا فكانت أسبق بيوت العبادة الحقّ ، وهي أسبق من بيت المقدس بتسعة قرون . فإنّ إبراهيم بنى الكعبة في حدود سنة 1900 قبل المسيح وسليمانَ بنى بيت المقدس سنة 1000 قبل المسيح ، والكعبة بناها إبراهيم بيده فهي مبنية بيد رسول . وأمَّا بيتُ المقدس فبناها العملة لسليمان بأمره . وروى في «صحيح مسلم» ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنَّه قال : سألت رسول الله : أيّ مسجد وُضِعَ أولُ؟ قال : المسجدُ الحرام ، قلت : ثمّ أيّ؟ قال : المسجدُ الأقصى ، قلت : كم كان بينهما؟ قال : أربعون سنة . فاستشكله العلماء بأنّ بين إبراهيم وسليمان قروناً فكيف تكون أربعين سنة ، وأجاب بعضهم بإمكان أن يكون إبراهيم بنى مسجداً في موضع بيت المقدس ثُمّ درس فجدّده سليمان .

وأقول : لا شكّ أنّ بيت المقدس من بناء سليمان كما هو نص كتاب اليهود ، وأشار إليه القرآن في قوله :

{ يعملون له ما يشاء من محاريب } [ سبأ : 13 ] الآية ، فالظاهر أنّ إبراهيم لمَّا مرّ ببلاد الشَّام ووعده الله أن يورث تلك الأرض نسلهُ عيَّن الله له الوضع الَّذي سيكون به أكبر مسجدٍ تبنيه ذرّيّته ، فأقام هنالك مسجداً صغيراً شكراً لله تعالى ، وجعله على الصّخرة المجعولة مذبحاً للقربان . وهي الصّخرة الَّتي بنى سليمان عليها المسجد ، فلمَّا كان أهل ذلك البلد يومئذ مشركين دثر ذلك البناء حتَّى هدى الله سليمان إلى إقامة المسجد الأقصى عليه ، وهذا من العِلم الَّذي أهملتْه كتب اليهود ، وقد ثبت في سفر التَّكوين أنّ إبراهيم بنى مذابح في جهات مرّ عليها من أرض الكنعانيين لأنّ الله أخبره أنَّه يعطي تلك الأرض لنسله ، فالظاهر أنّه بنى أيضاً بموضع مسجد أرشليم مذبحاً .

و { مباركاً } اسم مفعول من بارك الشيء إذا جعل له بركة وهي زيادة في الخير . أي جُعلت البركة فيه بجعل الله تعالى ، إذ قَدّرَ أن يكون داخلُهُ مُثاباً ومحصّلا على خيْر يبلغه على مبلغ نيته ، وقدّر لمجاوريه وسكّان بلده أن يكونوا ببركة زيادةِ الثَّواببِ ورفاهية الحال ، وأمر بجعل داخله آمناً ، وقدّر ذلك بين النَّاس فكان ذلك كلّه بركة . وسيأتي معنى البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الَّذي بين يديه } في سورة [ الأنعام : 92 ] . ووصفه بالمصدر في قوله : { وهُدى } مبالغة لأنَّه سبب هدى .

وجُعل هدى للعالمين كلِّهم : لأنّ شهرته وتسامع النَّاس به ، يحملهم على التساؤل عن سبب وضعه ، وأنَّه لتوحيد الله ، وتطهير النُّفوس من خبث الشرك فيهتدي بذلك المهتدي ، ويرعوي المتشكك .

ومن بركة ذاته أنّ حجارته وضعتْها عند بنائه يد إبراهيم ، ويد إسماعيل ، ثُمّ يدُ محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا سيما الحجر الأسود . وانتصب { مباركاً وهدى } على الحال من الخبر ، وهو اسم الموصول .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022