وفي قوله : { ولا يأمركم } التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وقرأ الجمهور «يأمُرُكم» بالرفع على ابتداء الكلام ، وهذا الأصل فيما إذا أعيد حرف النفي ، فإنه لما وقع بعد فعل منفي ، ثم انتقض نفيه بلكن ، احتيج إلى إعادة حرف النفي ، والمعنى على هذه القراءة واضح : أي ما كان لبشر أن يقول للناس كونوا إلخ ولا هو يأمُرهم أن يتخذوا الملائكة أرباباً . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ويعقوب ، وخلف : بالنصب عطفاً على أن يقولَ ولا زائدة لتأكيد النفي الذي في قوله : { ما كان لبشر } ، وليست معمولة لأنْ : لاقتضاء ذلك أن يصير المعنى : لا ينبغي لبشر أوتي الكتاب ألاّ يأمركم أن تتخذوا ، والمقصود عكس هذا المعنى ، إذ المقصود أنه لا ينبغي له أن يأمر ، فلذلك اضطرّ في تخريج هذه القراءة إلى جعل لا زائدة لتأكيد النفي وليست لنفي جديد . وقرأه الدُّوري عن أبي عمرو باختلاس الضمة إلى السكون .
ولعلّ المقصود من قوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } : أنهم لما بالغوا في تعظيم بعض الأنبياء والملائكة ، فصوّروا صور النبيئين ، مثل يحيى ومريم ، وعبدوهما ، وصوّروا صور الملائكة ، واقتران التصوير مع الغلوّ في تعظيم الصورة والتعبد عندها ضربٌ من الوثنية .
قال ابن عرفة : «إن قيل نفي الأمر أعم من النهي فهلا قيل ويَنهاكم . والجواب أنّ ذلك باعتبار دعواهم وتقوّلهم على الرسل» . وأقول : لعلّ التعبير بلا يأمركم مشاكلة لقوله : { ثم يقول للناس } لأنهم زعموا أنّ المسيح قال : إنه ابنُ الله فلما نفي أنه يقول ذلك نفي ما هو مثله وهو أن يأمرُهم باتخاذ الملائكة أرباباً ، أو لأنهم لما كانوا يدّعون التمسك بالدين كان سائر أحوالهم محمولة على أنهم تلقوها منه ، أو لأنّ المسيح لم ينههم عن ذلك في نفس الأمر ، إذ هذا مما لا يخطر بالبال أن تتلبس به أمة متدينة فاقتصر ، في الردّ على الأمة ، على أنّ أنبياءهم لم يَأمروهم به ولذلك عقب بالاستفهام الإنكاري ، وبالظرف المفيد مزيد الإنكار على ارتكابهم هذه الحالة ، وهي قوله : { أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } .
فهناك سببان لإنكار أن يكونَ ما هم عليه مُرضياً أنبياءهم؛ فإنه كفر ، وهم لا يرضون بالكفر . فما كان من حقّ من يتبعونهم التلبُّس بالكفر بعد أن خرجوا منه .
والخطاب في قوله : { ولا يأمركم } التفات من طريقة الغيبة في قوله : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله } فالمواجَه بالخطاب هم الذين زعموا أنّ عيسى قال لهم : كونوا عباداً لي من دون الله .
فمعنى { أنتم مسلمون } يقتضي أنّهم كانوا مسلمين والخطاب للنصارى وليس دينهم يطلق عليه أنه إسلام . فقيل : أريد بالإسلام الإيمان أي غير مشركين بقرينة قوله { بالكفر } .
وقيل الخطاب للمسلمين بناء على ظاهر قوله : { إذ أنتم مسلمون } لأنّ اليهود والنصارى لم يوصفوا بأنهم مسلمون في القرآن ، فهذا الذي جرّأ من قالوا : إنّ الآية نزلت لقول رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ألاَ نسجد لك» ، ولا أراه لو كان صحيحاً أن تكون الآية قاصدة إياه؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : ثم يأمر الناس بالسجود إليه ، ولما عرّج على الأمر بأن يكونوا عباداً له من دون الله ولا بأن يتّخذوا الملائكة والنبيين أرباباً .