وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) صيغة التفعُّل تدل على التكلف ، والتكلف : الطلب . واشتقاق { تفقّد } من الفَقْد يقتضي أن { تفقّد } بمعنى طلب الفَقد . ولكنهم توسعوا فيه فأطلقوه على طلب معرفة سبب الفقد ، أي معرفة ما أحدثه الفقد في شيء ، فالتفقد : البحث عن الفقد ليعرف بذلك أن الشيء لم ينقص وكان الطير من جملة الجند لأن كثيراً من الطير صالح للانتفاع به في أمور الجند فمنه الحمام الزاجل ، ومنه الهُدهد أيضاً لمعرفة الماء ، ومنه البزاة والصقور لصيد الملك وجنده ولجلب الطعام للجند من الصيد إذا حل الجند في القفار أو نفد الزاد . وللطير جنود يقومون بشؤونها . وتفقد الجند من شعار الملك والأمراء وهو من مقاصد حشر الجنود وتسييرها . والمعنى : تفقَّد الطيرَ في جملة ما تفقده ، فقال لمن يلون أمر الطير : { ما لي لا أرى الهدهد } .
ومن واجبات ولاة الأمور تفقد أحوال الرعية وتفقد العمال ونحوهم بنفسه كما فعل عمر في خروجه إلى الشام سنة سبع عشرة هجرية ، أو بمن يكل إليه ذلك ، فقد جعل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري يتفقد العمال .
و { الهُدهد } : نوع من الطير وهو ما يقرقر ، وفي رائحته نتن وفوق رأسه قَزَعة سوداء ، وهو أسود البراثن ، أصفر الأجفان ، يقتات الحبوب والدود ، يرى الماء من بُعد ويحس به في باطن الأرض ، فإذا رَفرف على موضع عُلم أن به ماء ، وهذا سبب اتخاذه في جند سليمان . قال الجاحظ : يزعمون أنه هو الذي كان يدل سليمان على مواضع الماء في قعور الأرضين إذا أراد استنباط شيء منها .
وقوله : { ما لي لا أرى الهدهد } استفهام عن شيء حصل له في حال عدم رؤيته الهدهد ، ف { ما } استفهام . واللام من قوله : { لي } للاختصاص . والمجرور باللام خبر عن { ما } الاستفهامية . والتقدير : ما الأمر الذي كان لي .
وجملة : { لا أرى الهدهد } في موضع الحال من ياء المتكلم المجرورة باللام ، فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي عن المانع لرؤية الهدهد . والكلام موجه إلى خفرائه ، يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد .
و { أم } منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين . و { أم } لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها ، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر . والتقدير : بل أكان من الغائبين؟ وليست { أم } المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام .
وصاحب «المفتاح» مثَّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض . ولما كان قول سليمان هذا صادراً بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : { لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه } لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحاً له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداماً له لئلا يلقِّن بالفساد غيرَه فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالاً لغيره .
فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود . ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عُيّن له من عمل أو تغيب عنه .
وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله . قال القرافي في «تنقيح الفصول» في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه . قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا تُرك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله . قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة " اه . وقال الشيخ ابن أبي زيد في «الرسالة» : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يُقدَر على تركها . فقول سليمان { لأعذبنه عذاباً شديداً } شريعة منسوخة .
أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير ، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش .
و { أو } تفيد أحَدَ الأشياء فقوله : { أو ليأتيني بسلطان مبين } جعله ثالث الأمور التي جعلها جزاء لغيبته وهو أن يأتي بما يدفع به العقاب عن نفسه من عذر في التخلف مقبول .
والسلطان : الحجة . والمبين : المظهر لحق المحتج بها . وهذه الزيادة من النبي سليمان استقصاء للهدهد في حقه لأن الغائب حجته معه .