قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29 طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث ، إذ التقدير : فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته ، قالت : يأيها الملأ إلخ .
وجملة : { قالت } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالاً عن شأنها حين بلَغها الكتاب .
و { الملأ } : الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها . وظاهر قولها : { ألقي إليّ } أن الكتاب سُلّم إليها دون حُضور أهل مجلسها . وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بَلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأساً . والإلقاء تقدم آنفاً .
ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى : { لهم مغفِرَة ورزق كريم } في سورة الأنفال ( 74 ) ؛ بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفياً كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه . ومن ذلك أن يكون مختوماً ، وقد قيل : كرم الكتاب ختمه ، ليكون ما في ضمنه خاصاً باطلاع من أُرسل إليه وهو يُطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء . قال ابن العربي : «الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] وأهل الزمان يصفون الكِتاب بالخَطير ، والأثير ، والمبرور ، فإن كان لملك قالوا : العزيز ، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة» .
وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محموداً عندها لأنها قالت : { إن الملوك إذا دَخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } [ النمل : 34 ] .
ثم قصَّت عليهم الكتاب حين قالت : { إنه من سليمان وإنه } إلى آخره . فيحتمل أن يكون قد تُرجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشُورتها ، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية ، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوباً بالعربية القحطانية ، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتَّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته ، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم للملوك باللغة العربية .
أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشىء بها .