إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
استئناف بياني جواباً عما يخطر في بال السامع عقب قوله { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] من التساؤل عن إعراض أهل الشرك لما عليه الرسول من الحق المبين . وهو أيضاً تعليل آخر للأمر بالتوكل على الله بالنظر إلى مدلوله الكنائي ، فموقع حرف التوكيد فيه كموقعه في التعليل بالجملة التي قبله . وهذا عذر للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، ولكونه تعليلاً لجانب من التركيب وهو الجانب الكنائي غير الذي علل بجملة { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها تنبيهاً على استقلالها بالتعليل .
والإسماع : إبلاغ الكلام إلى المسامع .
و { الموتى } و { الصم } : مستعاران للقوم الذين لا يقبلون القول الحق ويكابرون من يقوله لهم . شبهوا بالموتى على طريقة الاستعارة في انتفاء فهمهم معاني القرآن ، وشبهوا بالصم كذلك في انتفاء أثر بلاغة ألفاظه عن نفوسهم . وللقرآن أثران :
أحدهما : ما يشتمل عليه من المعاني المقبولة لدى أهل العقول السليمة وهي المعاني التي يدركها ويسلم لها من تبلغ إليه ولو بطريق الترجمة بحيث يستوي في إدراكها العربي والعجمي وهذا أثر عقلي .
والأثر الثاني : دلالة نظمه وبلاغته على أنه خارج عن مقدرة بلغاء العرب . وهذا أثر لفظي وهو دليل الإعجاز وهو خاص بالعرب مباشرة ، وحاصل لغيرهم من أهل النظر والتأمل إذا تدبروا في عجز البلغاء من أهل اللسان الذي جاء به القرآن ، فهؤلاء يوقنون بأن عجز بلغاء أهل ذلك اللسان عن معارضته دال على أنه فوق مقدرتهم؛ فالمشركون شبهوا بالموتى بالنظر إلى الأثر الأول ، وشبهوا بالصم بالنظر إلى الأثر الثاني ، فحصلت استعارتان . ونفي الإسماع فيهما ترشيحان للاستعارتين وهما مستعاران لانتفاء معالجة إبلاغهم .
ولأجل اعتبار كلا الأثرين المبنيّ عليه ورود تشبيهين كرر ذكر الترشيحين فعطف { ولا تسمع الصم } على { لا تسمع الموتى } ، ولم يكتف بأن يقال : إنك لا تسمع الموتى ولا الصم .
وتقييد الصم بزمان توليهم مدبرين لأن تلك الحالة أوغل في انتفاء إسماعهم لأن الأصم إذا كان مواجهاً للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ ويستفيد بقيته بحركة الشفتين ، فأما إذا ولى مدبراً فقد ابتعد عن الصوت ولم يلاحظ حركة الشفتين فذلك أبعد له عن السمع .
واستدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على رد ظاهر حديث ابن عمر : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين فناداهم بأسمائهم وقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ، قال ابن عمر : فقيل له : يا رسول الله أتنادي أمواتنا فقال : إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم» . فقالت عائشة : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت { إنك لا تسمع الموتى } حتى قرأت الآية .
وهذا من الاستدلال بظاهر الدلالة من القرآن ولو باحتمال مرجوح كما بيناه في المقدمة التاسعة . وإلا فإن الموتى هنا استعارة وليس بحقيقة .
وضميرا { ولوا مدبرين } عائدان إلى الصم ، وهو تتميم للتشبيه حيث شبهوا في عدم بلوغ الأقوال إلى عقولهم بصم ولوا مدبرين ، فإن المدبر يبعد عن مكان من يكلمه فكان أبعد عن الاستماع كما تقدم آنفاً .