أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) و { أمْ لكم سلطانٌ مبينٌ } إضراب انتقالي ف { أم } منقطعة بمعنى ( بل ) التي معناها الإضراب الصالح للإِضراب الإِبطالي والإِضراب الانتقالي . والسلطان : الحجة . والمُبين : الموضح للحق . والاستفهام الذي تقتضيه { أم } بعدها إنكاري أيضاً . فالمعنى : ما لكم سلطان مبين ، أي على ما قلتم : إن الملائكة بنات الله .
وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا بالإِتيان بكتاب من عند الله على ذلك إن كانوا صادقين فيما زعموا ، أي فإن لم تأتوا بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين . والأمر في قوله : { فَأتُوا } أمر تعجيز مثل قوله : { وإن كنتم في ريب ممّا نزَّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] .
وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية ، أي كتاب مرسل إليكم . ومجادلتهم بهذه الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة؛ فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين : دعوى أن الملائكة بنات الله ، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله :
{ فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً } [ الصافات : 149 - 150 ] .
ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوماً من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث . وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم ، فذلك الانتقال ابتداء مِن قوله : { وهم شاهِدونَ } [ الصافات : 150 ] وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى ، ثم قوله : { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكِتابِكم إن كنتم صادِقينَ } فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبراً مقطوعاً بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلاّ من عند الله تعالى ، لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك ، فدليل المشاهدة منتف بالضرورة ، ودليل العقل والنظر منتف أيضاً إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور .
فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة : أشير إلى دليل الحس بقوله : { وهُم شاهِدونَ } ، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله : { أم لكم سلطانٌ مبين } ، ثم فرع عليه قوله : { فأتوا بكتابِكم إن كنتم صادقين } وهو دليل السمع . فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيرُه .