فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله . وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحداً من خلقه ، فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخباراً من الله في أن ينزَّل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوّزون ذلك لقولهم : { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] ، ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب .
فذكر لفظ «كتابكم» إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فأتوا به ، أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتاباً من عند الله . وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإِيصال ، والتقدير : بكتاب إليكم ، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه بل بواسطة حرف الجر وهو ( إلى ) .
فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموه فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلاً باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله : { ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد اللَّه وإنهم لكاذبون }
[ الصافات : 151 - 152 ] الواقععِ معترضاً بين الترديد في الدليل .
وأما قوله : { أصطفى البنات على البنين } فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه ، وهذا يسمى المعارضة . وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخرُ الجدل معهم هو الدليلَ الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله : { أم لكم سلطانٌ مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادِقينَ } . فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم .
وقرأ الجمهور { تَذَكَّرُونَ } بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الذال بعد قلبها ذالاً لقرب مخرجيهما . وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفاً .