بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) { بَلْ } للإِضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب .
وقرأ الجمهور { بَلْ عَجِبْتَ } بفتح التاء للخطاب . والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطببِ بقوله : { فَاستَفْتِهِم } [ الصافات : 11 ] . وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو : بِعت . والمعنى : اعجَبْ لهم . ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إعْراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملاً في حقيقته . ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام ، أي بل أعجبت .
والمعنى على الجميع : أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى : { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد } في سورة [ الرعد : 5 ] .
وقرأ حمزة والكسائي وخلف { بَلْ عَجِبْتُ } بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد : أن الله أسند العجب إلى نفسه . ويُعرَف أنه ليس المراد حقيقةَ العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه ، وهو استعظام الأمر المتعجب منه . وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعجب من رجلين يَقتُل أحدهُما الآخرَ يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه النسائي بهذا اللفظ . يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافراً فيقاتل فيستشهد في سبيل الله .
وقولُه في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلاً فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما «عجِب الله من فعالكما» .
ونزل فيه { ويؤثرون على أنفسهم } [ الحشر : 9 ] . وقوله : «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» . وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح ، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله : { عَجِبْتُ } ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث . ويجوز أن يكون أطلق { عجبت } على معنى المجازاة على عَجبهم لأن قوله : { فاستفتهم أهم أشدُّ خلقاً } [ الصافات : 11 ] دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عَجبهم . وأطلق على ذلك العقاب فعل { عجبت } كما أطلق على عقاب مكرهم المكرُ في قوله : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
والواو في { ويَسْخَرُونَ } واو الحال ، والجملة في موضع الحال من ضمير { عَجِبْتَ } أي كان أمرهم عجباً في حال استسخارهم بك في استفتائهم . وجيء بالمضارع في { يسخرون } لإِفادة تجدد السخرية ، وأنهم لا يرعوُون عنها .
والسخرية : الاستهزاء ، وتقدمت في قوله تعالى : { فحاق بالذين سخروا منهم } في سورة [ الأنعام : 10 ] .