إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك .
والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها . والآيات : الدلالات ، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه ، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم ، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلاً مباركاً ، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدّر لتطهير الأرض من الشرك مثلَ هذا الاستيصال العام لأهله . وإذ قدَر لإبقاء الأنواع مثلَ هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل .
وعُطف على جملة { إن في ذلك لآيات } جملة { وإن كنا لمبتلين } لأن مضمون { وإن كنا لمبتلين } يفيد معنى : إن في ذلك لَبَلْوى ، فكأنه قيل : إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين ، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا . فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهيَّة لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانيَّة فتحمد عواقب البلوى ، ولتتخبَّط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زماناً .
والمعنى : أن ما تقدم قبلَ الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وأذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميّز الله للنَّاس الخبيثَ من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومُه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنَّة إلهيَّة . وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له «وكذلك الأنبياء تُبْتَلَى ثم تكون لهم العاقبة» ، وفي القرآن { والعاقبة للمتقين } [ القصص : 83 ] .
والابتلاء تقدم في قوله تعالى : { وإذِ ابْتَلَى إبراهيمَ ربُّه } [ البقرة : 124 ] وقوله : { وفي ذلكُم بلاءٌ من ربكم عظيم } في سورة البقرة ( 49 ) .
وفي قوله : وإن كنا لمبتلين } تسلية للنبيء محمد صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من المشركين ، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجِهون به الرسول صلى الله عليه وسلم لا بَقَاءَ له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكلَ حظٌّ يناسبه .
ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نُزّل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد ب { إنْ } المخفَّفة وبفعل { كنا } .
واللام هي الفارقة بين ( إنْ ) المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين ( إنْ ) النافية .