فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعاً قطعاً لكل فريق صنم وعبادة خاصة به . فضمير { تقطّعوا } عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } [ المؤمنون : 52 ] . وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق .
فالكلام مسوق مساق الذم . ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع ، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيباً من حالهم . ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله { كل حزب بما لديهم فرحون } أي وهم ليسوا بحال من يفرح .
والتقطع أصله مطاوع قطع . واستعمل فعلاً متعدياً بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل ، ونظيره تخوفه السير ، أي تنقصه ، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن . فالمعنى : قطعوا أمرهم بينهم قطعاً كثيرة ، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه ديناً . ويجوز أن يجعل { تقطَّعوا } قاصراً أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله { أمرهم } كأنه قيل : تقطعوا أمراً ، فإن كثيراً من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة . وقد بسطنا القول في معنى { تقطعوا أمرهم بينهم } في سورة الأنبياء ( 93 ) .
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم .
والزبُر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب . استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب ، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أدياناً وعقائد لو سجلت لكانت زُبُراً .
وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه { زُبَرا } بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زُبرة بمعنى قطعة .
وجملة { كل حزب بما لديهم فرحون } تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه ، ففي الكلام صفة محذوفة ل { حزب } ، أي كل حزب منهم ، بدلالة المقام .
والفرح : شدة المسرة ، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين . والمعنى : أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد . وذلك يومىء إليه { لديهم } المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل ، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه ، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } [ المؤمنون : 52 ] . وقديماً كان التحزب مسبباً لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق .
والحزب : الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل ، أو المتفقون عليه .