فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) : { فأنشأنا لكم به جنات } إلى آخره . ومعنى هذه الآية تقدّم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل .
وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماءً وثَلجاً وبَرَداً على السهول والجبال .
والقدَر هنا : التقدير والتعيين للمقدار في الكَمّ وفي النَّوبة ، فيصح أن يحمل على صريحه ، أي بمقدار معيَّن مُناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب ، وكذلكَ ذَوَبان الثلوج النازلة . ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان . وليس المراد بالقَدَر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم " وتؤمن بالقَدر خيرِه وشره " .
والإسكان : جعل الشيء في مسكن ، والمسكن : محل القرار ، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون .
وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة . وهذا الإقرار على نوعين : إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدةُ الحرارة أو شدةُ البرد ، وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض .
ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تُفَجَّر بالحفر آباراً .
وجملة { وإنا على ذهاب به لقادرون } معتَرضة بين الجملة وما تفرع عليها . وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام
وتنكير { ذهاب } للتفخيممِ والتعظيم . ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه ، ومن تجفيفه بشدة الحرارة ، ومن إمساك إنزاله زمناً طويلاً .
وفي معناه قوله تعالى : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمَن يأتيكم بماء معين } [ الملك : 30 ] ، وفي «الكشاف» : «وهو ( أي ما في هاته الآية ) أبلغ في الإيعاد من قوله : { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غَوراً فمن يأتيكم بماء معين } [ الملك : 30 ] اه . فبيَّن صاحب «التقريب» للأبلغيَّة ثمانية عشر وجهاً :
الأول : أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع .
الثاني : التوكيد ب ( إنّ ) .
الثَّالث : اللام في الخبر .
الرابع : أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم .
الخامس : أن الغائر قد يكون باقياً بخلاف الذاهب .
السادس : ما في تنكير { ذهاب } من المبالغة .
السابع : إسناده ههنا إلى مُذهِب بخلافه ثَمَّت حيث قيل { غَوراً } [ الملك : 30 ] .
الثامن : ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة .
التاسع : ما في { قادرون } من الدلالة على القدرة عليه والفعلُ الواقع من القادر أبلغ .
العاشر : ما في جمعه .
الحادي عشر : ما في لفظ { به } من الدلالة على أن ما يُمسكه فلا مُرسل له .
الثاني عشر : إخلاؤه من التعقيب بإطماععٍ وهنالك ذكر الإتيان المطمع .
الثالث عشر : تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلّق له أو متعلقُهُ على المذهبين البصري والكوفي .
الرابع عشر : ما بين الجملتين الاسميَّة والفعليَّة من التفاوت ثباتاً وغيره .
الخامس عشر : ما في لفظ { أصبح } [ الملك : 30 ] من الدلالة على الانتقال والصيرورة .
السادس عشر : أن الإذهاب ههنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام .
السابع عشر : أن هنالك نفي ماء خاص أعني المَعين بخلافه ههنا .
الثامن عشر : اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكداً .
وزاد الألوسي في «تفسيره» فقال :
التاسع عشر : إخباره تعالى نفسُه به من دون أمر للغير ههنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك .
العشرون : عدم تخصيص مخاطب ههنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك .
الحادي والعشرون : التشبيه المستفادُ من جعل الجملة حالاً فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمتَ .
الثاني والعشرون : إسناد القدرة إليه تعالى مرتين .
ونقل الألوسي عن عصريِّه المولى محمد الزهاوي وجوهاً وهي :
الثالث والعشرون : تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ( ذهب به ) يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول ، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك .
الرابع والعشرون : أنه ليس الوقت للذهاب معيّناً هنا بخلافه في { إن أصبح } [ الملك : 30 ] فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي ( أصبح ) ناقصاً .
الخامس والعشرون : أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل ( أي ما دل عليه لفظ غوراً ) .
السادس والعشرون : أن الإيعاد هنا بما لم يبتَلوا به قط بخلافه بما هنالك .
السابع والعشرون : أن الموعدَ به هنا إن وقع فهم هالكون البتة .
الثامن والعشرون : أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفاً في تأميل امتناع الموعَد به وهناك حيث أسند الإصباح غوراً إلى الماء ، ومعلوم أن الماء لا يصبح غوراً بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم ، أيضاً احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنِعة المقدّم فيأمنوا وقوعه .
التاسع والعشرون : أن الموعَد به هنا يحتمل في بادىء النظر وقوعه حالاً بخلافه هناك فإن المستقبل متعيِّن لوقوعه لمكان ( إنْ ) . وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون .
الثلاثون : أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بُعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه : إن أصبح ماؤكم غوراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى .
وأنا أقول : عُنِي هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرّض أحدهم للكشف عن وجه توفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها ، وليس ذلك لِخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجزِ الناظرين عن استخراج أمثالها ، ولكن ما يبيّن من الخصائص البلاغيَّة في القرآن ليس يُريد من يبينه أن ما لاح له ووُفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكنه مبلغ ما صادف لَوحُه للناظر المتدبر ، والعلماءُ متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغيَّة في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها . وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجاً لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات أخرى كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءَك } [ هود : 44 ] الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من «المفتاح» ، وأنه قال في منتهى كلامه «ولا تظنَّنَّ الآية مقصورة على ما ذكرتُ فلعل ما تركتُ أكثرُ مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلاّ الإرشادَ لكيفيَّة اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان» .
وقد نقول : إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة ، وأما آية سُورة المُلك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها ، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيَات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نَصل إليها .
على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين ، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتُفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسَلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها .
وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضاً من صنع الله بمَا أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بُعد فكل هذا الإنشاء من الله تعالى .
والجنَّة : المكان ذو الشجر ، وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكَرْم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { كمثَل جنة بربوة } الآية في سورة البقرة ( 265 ) .
وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمراً وهو النخيل والأعناب والزيتون ، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة الأنعام ( 99 ) وفي سورة النحل ( 11 ) .
والفواكه : جمع فاكهة ، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله ، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت ، فإن قُصد به القوت قيل له طَعام .
فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمْر والعِنب لأنه يؤكل رطباً ويابساً ، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى ، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون ، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منَّة بالحاجيِّ والتحسيني .
ووصف الفواكه ب { كثيرة } باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر ، وكالزيت والعنب الرّطْب ، وأيضاً باعتبار كثرة إثمار هذين الشجَريْن .