كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) استئناف لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ناشىءٌ عن قوله : { وما كان أكثرهم مؤمنين } [ الشعراء : 103 ] أي لا تأسَ عليهم ولا يعظُمْ عليك أنهم كذّبوك فقد كذبت قوم نوح المرسلين؛ وقد علم العرب رسالةَ نوح ، وكذلك شأن أهل العقول الضالّة أنهم يعرفون الأحوال وينسون أسبابها .
وأنث الفعل المسند إلى قوم نوح لتأويل { قوم } بمعنى الأمة أو الجماعة كما يقال : قالت قريش ، وقالت بنو عامر ، وذلك قياس في كل اسم جَمع لا واحد له من لفظه إذا كان للآدمي مثل نَفَر ورهْط ، فأما إذا كان لغير الآدميين نحو إبل فمؤنث لا غير . قاله الجوهري وتبعه صاحب «اللسان» و«المصباح» .
ووقع في «الكشاف» هذه العبارة «القومُ مؤنثة وتصغيرُها قُويمة» فظاهر عبارته أن هذا اللفظ مؤنث المعنى في الاستعمال لا غير ، وهذَا لم يقله غيره وسكت شراحه عليه ولم يعرج الزمخشري عليه في «الأساس» فإن حمل على ظاهر العبارة فهو مخالف لكلام الجوهري وابن سيده . ويحتمل أنه أراد جواز تأنيث ( قوم ) وأنه يجوز أن يصغر على قويمة فيُجمع بين كلامه وكلام الجوهري وابن سيده ، وهو احتمال بعيد من ظاهر كلامه الموكَّد بقوله : وتصغيره قُويمة ، لما هو مقرر من أن التصغير يرد الأسماء إلى أصولها . وأيّاً مّا كان فهو صريح في أن تأنيثه ليس بتأويله بمعنى الأمة لأن التأويل اعتبار للمتكلم فلا يكون له أثر في إجراء الصيغ مثل التصغير ، فإن الصيغ من آثار الوضع دون الاستعمال ، ألا ترى أنه لا تجعل للمعاني المجازية صيغ خاصة بالمجاز .
وجُمع { المرسلين } وإنما كذَّبوا رسولاً واحداً أولَ الرسل ولم يكن قبله رسول وهم أول المكذّبين ، فإنما جُمع لأن تكذيبهم لم يكن لأجل ذاته ولكنه كان لإحالتهم أن يرسل الله بشراً ، وأن تكون عبادة أصنامهم ضلالاً فكان تكذيبهم إياه مقتضياً تكذيب كل رسول لأن كل رسول يقول مثل ما قاله نوح عليه السلام ، ولذلك تكرر في قوله : { كذبت عاد المرسلين } [ الشعراء : 123 ] وما بعده . وقد حكي تكذيبهم أن يكون الرسول بشراً في قوله : { أَوَعَجِبْتم أن جاءكم ذِكْر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في [ الأعراف : 63 ] .
وسيأتي حكاية تكذيب عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب لَيْكة على هذا النمط فيما تكرر من قوله : كذبت } وقوله : { المرسلين } .