أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) الواو عاطفة على جملة : { وما يأتيهم من ذِكر من الرحمن مُحدَث إلا كانوا عنه معرضين } [ الشعراء : 5 ] ؛ فالهمزة الاستفهامية منه مقدمة على واو العطف لفظاً لأن للاستفهام الصدارةَ ، والمقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم لا تغني فيهم الآيات لأن المكابرة تصرفهم عن التأمل في الآيات ، والآياتُ على صحة ما يدعوهم إليه القرآن من التوحيد والإيمان بالبعث قائمة متظاهرة في السماوات والأرض وهم قد عَمُوا عنها فأشركوا بالله ، فلا عجب أن يضلوا عن آيات صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكون القرآن منزلاً من الله فلو كان هؤلاء متطلعين إلى الحق باحثين عنه لكان لهم في الآيات التي ذُكِّروا بها مقنع لهم عن الآيات التي يقترحونها قال تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء } [ الأعراف : 185 ] ، وقال : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101 ] أي عن قوم لم يعدوا أنفسهم للإيمان .
فالمذكور في هذه الآية أنواع النبات دالة على وحدانية الله لأن هذا الصنع الحكيم لا يصدر إلاّ عن واحد لا شريك له . وهذا دليل من طريق العقل ، ودليل أيضاً على إمكان البعث لأن الإنبات بعد الجَفاف مثيل لإحياء الأموات بعد رفاتهم كما قال تعالى : { وآية لهم الأرض الميتة أحيَيْناها } [ يس : 33 ] . وهذا دليل تقريبي للإمكان فكان في آية الإنبات تنبيه على إبطال أصلي عدم إيمانهم وهما : أصل الإشراك بالله ، وأصل إنكار البعث .
والاستفهام إنكار على عدم رؤيتهم ذلك لأن دلالة الإنبات على الصانع الواحد دلالة بينة لكل من يراه؛ فلما لم ينتفعوا بتلك الرؤية نزلت رؤيتهم منزلة العدم فأنكر عليهم ذلك . والمقصود : إنكار عدم الاستدلال به .
وجملة : { كم أنبتنا } بَدل اشتمال من جملة { يروا } فهي مصبّ الإنكار . وقوله : { إلى الأرض } متعلق بفعل { يروا } ، أي ألم ينظروا إلى الأرض وهي بمرأى منهم .
و { كم } اسم دال على الكثرة ، وهي هنا خبرية منصوبة ب { أنبتنا } . والتقدير : أنبتنا فيها كثيراً من كل زوج كريم .
و { مِن } تبعيضية . ومورد التكثير الذي أفادته { كم } هو كثرة الإنبات في أمكنة كثيرة ، ومورد الشمول المفاد من { كل } هو أنواع النبات وأصنافه وفي الأمرين دلالة على دقيق الصنع . واستغني بذكر أبعاض كل زوج عن ذكر مميز { كم } لأنه قد عُلم من التبعيض .
والزوج : النوع ، وشاع إطلاق الزوج على النوع في غير الحيوان قال تعالى : { ومن كل الثمرات جَعَلَ فيها زوجَيْن اثنين } على أحد احتمالين تقدما في سورة الرعد ( 3 ) ، وتقدم قوله تعالى : { فأخرجنا به أزواجاً من نبات شَتى } في طَه ( 53 ) .
والكريم : النفيس من نوعه قال تعالى : { ورزق كريم } في الأنفال ( 4 ) ، وتقدم عند قوله تعالى : { مَرُّوا كِرَاماً } في سورة الفرقان ( 72 ) . وهذا من إدْماج الامتنان في ضمن الاستدلال لأن الاستدلال على بديع الصنع يحصل بالنظر في إنبات الكريم وغيرِه .
ففي الاستدلال بإنبات الكريم من ذلك وفاءٌ بغرض الامتنان مع عدم فوات الاستدلال . وأيضاً فنظر الناس في الأنواع الكريمة أنفذُ وأشهرُ لأنه يبتدىء بطلب المنفعة منها والإعجاب بها فإذا تطلبها وقع في الاستدلال فيكون الاقتصار على الاستدلال بها في الآية من قبيل التذكير للمشركين بما هم ممارسون له وراغبون فيه .
والمشار إليه بذلك } هو المذكور من الأرض ، وإنبات الله الأزواج فيها ، وما في تلك الأزواج من منافع وبهجة . والتأكيد بحرف { إنَّ } لتنزيل المتحدّث عنهم منزلة من ينكر دلالة ذلك الإنبات وصفاته على ثبوت الوحدانية التي هي باعث تكذيبهم الرسول لما دعاهم إلى إثباتها ، وإفراد ( آية ) لإرادة الجنس ، أو لأن في المذكور عدةَ أشياء في كل واحد منها آية فيكون على التوزيع .