سورة المدثر
مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها المدثر
قوله تعالى : يا أيها المدثر أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما . وقرأ أبي ( المتدثر ) على الأصل .
وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحدث - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : " فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فجئثت منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : " ثم تتابع الوحي " . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح .
قال مسلم : وحدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي قال : سمعت يحيى يقول : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : يا أيها المدثر فقلت : أو اقرأ ؟ فقال : سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : يا أيها المدثر فقلت : أو اقرأ ؟ فقال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل - صلى الله عليه وسلم - فأخذتني رجفة شديدة ، فأتيت خديجة فقلت دثروني ، فدثروني فصبوا علي ماء ، فأنزل الله - عز وجل - : يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر " خرجه البخاري وقال فيه : " فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت : يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر .
ابن العربي : وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي - صلى الله عليه وسلم - من عقبة بن ربيعة أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : يا أيها المدثر وهذا باطل .
وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : قم فأنذر أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة .
وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ; فمن قائل يقول مجنون ، وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به ، فقام منهم رجل فقال : شاعر ; فقال الوليد : سمعت كلام ابن الأبرص ، وأمية بن أبي الصلت ، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما ; فقالوا : كاهن . فقال : الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ; فقام آخر فقال : مجنون ; فقال الوليد : المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط . وانصرف الوليد إلى بيته ، فقالوا : صبأ الوليد بن المغيرة ; فدخل عليه أبو جهل وقال : ما لك يا أبا عبد شمس ! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت . فقال الوليد : ما لي إلى ذلك حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : ما يكون من الساحر ؟ فقيل : يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فقلت : إنه ساحر . شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون : إن محمدا ساحر . ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة ، ونزلت : يا أيها المدثر . وقال عكرمة : معنى يا أيها المدثر أي المدثر بالنبوة وأثقالها . ابن العربي : وهذا مجاز بعيد ; لأنه لم يكن تنبأ بعد . وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل .
قوله تعالى : يا أيها المدثر : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة ( المزمل ) . ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي إذ نام في المسجد : " قم أبا تراب " وكان خرج مغاضبا لفاطمة - رضي الله عنها - فسقط رداؤه وأصابه ترابه ; خرجه مسلم . ومثله قوله - عليه الصلاة والسلام - لحذيفة ليلة الخندق : " قم يا نومان " وقد تقدم .