ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم فيه ثمانية مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآيتين . الخطاب للرجال . والولد هنا بنو الصلب وبنو بنيهم وإن سفلوا ، ذكرانا وإناثا واحدا فما زاد بإجماع . وأجمع العلماء على أن للزوج النصف مع عدم الولد أو ولد الولد ، وله مع وجوده الربع . وترث المرأة من زوجها الربع مع فقد الولد ، والثمن مع وجوده . وأجمعوا على أن حكم الواحدة من الأزواج والثنتين والثلاث والأربع في الربع إن لم يكن له ولد ، وفي الثمن إن كان له ولد واحد ، وأنهن شركاء في ذلك ؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين حكم الواحدة منهن وبين حكم الجميع ، كما فرق بين حكم الواحدة من البنات والواحدة من الأخوات وبين حكم الجميع منهن .
الثانية : قوله تعالى : وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة الكلالة مصدر ؛ من تكلله النسب أي أحاط به . وبه سمي الإكليل ، وهي منزلة من منازل القمر لإحاطتها بالقمر إذا احتل بها . ومنه الإكليل أيضا وهو التاج والعصابة المحيطة بالرأس . ( فإذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة ) . هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم . وذكر يحيى بن آدم عن شريك وزهير وأبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سليمان بن عبد قال : ما رأيتهم إلا وقد تواطئوا وأجمعوا على أن الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد . وهكذا قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتبي وأبو عبيد وابن الأنباري . فالأب والابن طرفان للرجل ؛ فإذا ذهبا تكلله النسب . ومنه قيل : روضة مكللة إذا حفت بالنور . وأنشدوا :
مسكنه روضة مكللة عم بها الأيهقان والذرق
يعني نبتين . وقال امرؤ القيس :
أصاح ترى برقا أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
فسموا القرابة كلالة ؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، وإحاطتهم به أنهم ينتسبون معه . كما قال أعرابي : مالي كثير ويرثني كلالة متراخ نسبهم . وقال الفرزدق :
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال آخر :
وإن أبا المرء أحمى له ومولى الكلالة لا يغضب
وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ؛ فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء . قال الأعشى :
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تلاقي محمدا
وذكر أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال : الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة . قال أبو عمر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره . وروي عن عمر بن الخطاب أن ( الكلالة من لا ولد له خاصة ) ؛ وروي عن أبي بكر ثم رجعا عنه . وقال ابن زيد : الكلالة الحي والميت جميعا . وعن عطاء : الكلالة المال . قال ابن العربي : وهذا قول طريف لا وجه له .
قلت : له وجه يتبين بالإعراب آنفا . وروي عن ابن الأعرابي أن الكلالة بنو العم الأباعد .
وعن السدي أن الكلالة الميت . وعنه مثل قول الجمهور . وهذه الأقوال تتبين وجوهها بالإعراب ؛ فقرأ بعض الكوفيين " يورث كلالة " بكسر الراء وتشديدها . وقرأ الحسن وأيوب " يورث " بكسر الراء وتخفيفها ، على اختلاف عنهما . وعلى هاتين القراءتين لا تكون الكلالة إلا الورثة أو المال . كذلك حكى أصحاب المعاني ؛ فالأول من ورث ، والثاني من أورث .
وكلالة مفعوله وكان بمعنى وقع . ومن قرأ " يورث " بفتح الراء احتمل أن تكون الكلالة المال ، والتقدير : يورث وراثة كلالة فتكون نعتا لمصدر محذوف . ويجوز أن تكون الكلالة اسما للورثة وهي خبر كان ؛ فالتقدير : ذا ورثة . ويجوز أن تكون تامة بمعنى وقع ، ويورث نعت لرجل ، ورجل رفع بكان ، وكلالة نصب على التفسير أو الحال ؛ على أن الكلالة هو الميت ، التقدير : وإن كان رجل يورث متكلل النسب إلى الميت .
الثامنة والعشرون : ذكر الله عز وجل في كتابه الكلالة في موضعين : آخر السورة وهنا ، ولم يذكر في الموضعين وارثا غير الإخوة . فأما هذه الآية فأجمع العلماء على أن الإخوة فيها عنى بها الإخوة للأم ؛ لقوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث . وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ " وله أخ أو أخت من أمه " . ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو الأب ليس ميراثهم كهذا ؛ فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في آخر السورة هم إخوة المتوفى لأبيه وأمه أو لأبيه ؛ لقوله عز وجل وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . ولم يختلفوا أن ميراث الإخوة للأم ليس هكذا ؛ فدلت الآيتان أن الإخوة كلهم جميعا كلالة . وقال الشعبي : ( الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة إخوة أو غيرهم من العصبة ) . كذلك قال علي وابن مسعود وزيد وابن عباس ، وهو القول الأول الذي بدأنا به . قال الطبري : والصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده ، لصحة خبر جابر : فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة ، أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا .
الثالثة : قال أهل اللغة : يقال رجل كلالة وامرأة كلالة . ولا يثنى ولا يجمع ؛ لأنه مصدر كالوكالة والدلالة والسماحة والشجاعة . وأعاد ضمير مفرد في قوله : وله أخ ولم يقل لهما . ومضى ذكر الرجل والمرأة على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواء ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا ؛ تقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما وإليهم ؛ قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة . وقال تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ويجوز أولى بهم ؛ عن الفراء وغيره . ويقال في امرأة : مرأة ، وهو الأصل . وأخ أصله أخو ، يدل عليه أخوان ؛ فحذف منه وغير على غير قياس . قال الفراء ضم أول أخت ، لأن المحذوف منها واو ، وكسر أول بنت ؛ لأن المحذوف منها ياء . وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا .
الرابعة : قوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا . وإذا كانوا يأخذون بالأم فلا يفضل الذكر على الأنثى . وهذا إجماع من العلماء ، وليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم . فإذا ماتت امرأة وتركت زوجها وأمها وأخاها لأمها فللزوج النصف وللأم الثلث وللأخ من الأم السدس . فإن تركت أخوين وأختين - والمسألة بحالها - فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوين والأختين الثلث ، وقد تمت الفريضة . وعلى هذا عامة الصحابة ؛ لأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس . وأما ابن عباس فإنه لم ير العول ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك . والعول مذكور في غير هذا الموضع ، ليس هذا موضعه . فإن تركت زوجها وإخوة لأم وأخا لأب وأم ؛ فللزوج النصف ، ولإخوتها لأمها الثلث ، وما بقي فلأخيها لأمها وأبيها . وهكذا من له فرض مسمى أعطيه ، والباقي للعصبة إن فضل . فإن تركت ستة إخوة مفترقين فهذه الحمارية ، وتسمى أيضا المشتركة . قال قوم : ( للإخوة للأم الثلث ، وللزوج النصف ، وللأم السدس ) ، وسقط الأخ والأخت من الأب والأم ، والأخ والأخت من الأب .
روي عن علي وابن مسعود وأبي موسى والشعبي وشريك ويحيى بن آدم ، وبه قال أحمد بن حنبل واختاره ابن المنذر ؛ لأن الزوج والأم والأخوين للأم أصحاب فرائض مسماة ولم يبق للعصبة شيء . وقال قوم : ( الأم واحدة ، وهب أن أباهم كان حمارا ! وأشركوا بينهم في الثلث ) ؛ ولهذا سميت المشتركة والحمارية . روي هذا عن عمر وعثمان وابن مسعود أيضا وزيد بن ثابت ومسروق وشريح ، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق . ولا تستقيم هذه المسألة أن لو كان الميت رجلا . فهذه جملة من علم الفرائض تضمنتها الآية ، والله الموفق للهداية .
وكانت الوراثة في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء ؛ فأبطل الله عز وجل ذلك بقوله : للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب كما تقدم . وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية وبدء الإسلام بالمحالفة ، قال الله عز وجل : والذين عقدت أيمانكم على ما يأتي بيانه . ثم صارت بعد المحالفة بالهجرة ؛ قال الله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا الأنفال : وسيأتي . وهناك يأتي القول في ذوي الأرحام وميراثهم ، إن شاء الله تعالى . وسيأتي في سورة " النور " ميراث ابن الملاعنة وولد الزنا والمكاتب بحول الله تعالى . والجمهور من العلماء على أن الأسير المعلوم حياته أن ميراثه ثابت ؛ لأنه داخل في جملة المسلمين الذين أحكام الإسلام جارية عليهم . وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال في الأسير في يد العدو : لا يرث . وقد تقدم ميراث المرتد في سورة " البقرة " والحمد لله .
الخامسة : قوله تعالى : غير مضار نصب على الحال والعامل يوصى .
أي يوصي بها غير مضار ، أي غير مدخل الضرر على الورثة . أي لا ينبغي أن يوصي بدين ليس عليه ليضر بالورثة ؛ ولا يقر بدين . فالإضرار راجع إلى الوصية والدين ؛ أما رجوعه إلى الوصية فبأن يزيد على الثلث أو يوصي لوارث ، فإن زاد فإنه يرد ، إلا أن يجيزه الورثة ؛ لأن المنع لحقوقهم لا لحق الله تعالى . وإن أوصى لوارث فإنه يرجع ميراثا . وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز . وقد تقدم هذا في " البقرة " . وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها ؛ كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف ؛ فإن ذلك لا يجوز عندنا . وروي عن الحسن أنه قرأ غير مضار وصية من الله " على الإضافة . قال النحاس : وقد زعم بعض أهل اللغة أن هذا لحن ؛ لأن اسم الفاعل لا يضاف إلى المصدر . والقراءة حسنة على حذف ، والمعنى : غير مضار ذي وصية ، أي غير مضار بها ورثته في ميراثهم . وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة .
السادسة : فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين ؛ فقالت طائفة : يبدأ بدين الصحة ؛ هذا قول النخعي والكوفيين . قالوا : فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصون . وقالت طائفة : هما سواء إذا كان لغير وارث . هذا قول الشافعي وأبي ثور وأبي عبيد ، وذكر أبو عبيد أنه قول أهل المدينة ورواه عن الحسن .
السابعة : قد مضى في " البقرة " الوعيد في الإضرار في الوصية ووجوهها . وقد روى أبو داود من حديث شهر بن حوشب ( وهو مطعون فيه ) عن أبي هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار . قال : وقرأ علي أبو هريرة من هاهنا من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار حتى بلغ ذلك الفوز العظيم . وقال ابن عباس : ( الإضرار في الوصية من الكبائر ) ؛ ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن مشهور مذهب مالك وابن القاسم أن الموصي لا يعد فعله مضارة في ثلثه ؛ لأن ذلك حقه فله التصرف فيه كيف شاء . وفي المذهب قوله : أن ذلك مضارة ترد . وبالله التوفيق .
الثامنة : قوله تعالى : وصية نصب على المصدر في موضع الحال والعامل " يوصيكم " ويصح أن يعمل فيها مضار والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا ، قال ابن عطية ؛ وذكر أن الحسن بن أبي الحسن قرأ " غير مضار وصية " بالإضافة ؛ كما تقول : شجاع حرب . وبضة المتجرد ؛ في قول طرفة بن العبد . والمعنى على ما ذكرناه من التجوز في اللفظ لصحة المعنى .
ثم قال : والله عليم حليم يعني عليم بأهل الميراث حليم على أهل الجهل منكم . وقرأ بعض المتقدمين " والله عليم حكيم يعني حكيم بقسمة الميراث والوصية .