تفسير القرطبي - Al-Qortoby   سورة  البقرة الأية 62


سورة Sura   البقرة   Al-Baqara
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
الصفحة Page 10
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

قوله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

فيه ثماني مسائل : الأولى : قوله تعالى : إن الذين آمنوا أي : صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال سفيان : المراد المنافقون . كأنه قال : الذين آمنوا في ظاهر أمرهم ، فلذلك قرنهم باليهود والنصارى والصابئين ، ثم بين حكم من آمن بالله واليوم الآخر من جميعهم .

الثانية : قوله تعالى : والذين هادوا معناه صاروا يهودا ، نسبوا إلى يهوذا وهو أكبر ولد يعقوب عليه السلام ، فقلبت العرب الذال دالا ؛ لأن الأعجمية إذا عربت غيرت عن لفظها . وقيل : سموا بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل . هاد : تاب . والهائد : التائب ، قال الشاعر :

إني امرؤ من حبه هائد

أي : تائب . وفي التنزيل : إنا هدنا إليك أي : تبنا . وهاد القوم يهودون هودا وهيادة إذا تابوا . وقال ابن عرفة : هدنا إليك أي : سكنا إلى أمرك . والهوادة السكون والموادعة . قال : ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا . وقرأ أبو السمال : " هادوا " بفتح الدال .

الثالثة : قوله تعالى : والنصارى جمع واحده نصراني . وقيل : نصران بإسقاط الياء ، وهذا قول سيبويه . والأنثى نصرانة ، كندمان وندمانة . وهو نكرة يعرف بالألف واللام ، قال الشاعر :

صدت كما صد عما لا يحل له ساقي نصارى قبيل الفصح صوام

فوصفه بالنكرة . وقال الخليل : واحد النصارى نصري ، كمهري ومهارى . وأنشد سيبويه شاهدا على قوله :

تراه إذا دار العشا متحنفا ويضحي لديه وهو نصران شامس

وأنشد :

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها كما أسجدت نصرانة لم تحنف

يقال : أسجد إذا مال . ولكن لا يستعمل نصران ونصرانة إلا بياءي النسب ؛ لأنهم قالوا : رجل نصراني وامرأة نصرانية . ونصره : جعله نصرانيا . وفي الحديث : ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه ) . وقال عليه السلام : ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . وقد جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدها ، وقياسه النصرانيون . ثم قيل : سموا بذلك لقرية تسمى " ناصرة " كان ينزلها عيسى عليه السلام فنسب إليها فقيل : عيسى الناصري ، فلما نسب أصحابه إليه قيل النصارى ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام ينسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة . وقيل : سموا بذلك لنصرة بعضهم بعضا ، قال الشاعر :

لما رأيت نبطا أنصارا شمرت عن ركبتي الإزارا

كنت لهم من النصارى جارا

وقيل : سموا بذلك لقوله : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله .

الرابعة : قوله تعالى : والصابئين جماع صابئ ، وقيل : صاب ، ولذلك اختلفوا في همزه ، وهمزه الجمهور إلا نافعا . فمن همزه جعله من صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام إذا خرجت . ومن لم يهمز جعله من صبا يصبو إذا مال . فالصابئ في اللغة : من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ . فالصابئون قد خرجوا من دين أهل الكتاب .

الخامسة : لا خلاف في أن اليهود والنصارى أهل كتاب ولأجل كتابهم جاز نكاح نسائهم وأكل طعامهم على ما يأتي بيانه في المائدة وضرب الجزية عليهم ، على ما يأتي في سورة " براءة " إن شاء الله . واختلف في الصابئين ، فقال السدي : هم فرقة من أهل الكتاب ، وقاله إسحاق ابن راهويه . قال ابن المنذر وقال إسحاق : لا بأس بذبائح الصابئين لأنهم طائفة من أهل الكتاب . وقال أبو حنيفة : لا بأس بذبائحهم ومناكحة نسائهم . وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام . وقال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : هم قوم تركب دينهم بين اليهودية والمجوسية ، لا تؤكل ذبائحهم . ابن عباس : ولا تنكح نساؤهم . وقال الحسن أيضا وقتادة هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ، ويقرءون الزبور ، ويصلون الخمس ، رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة . والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا أنهم موحدون معتقدون تأثير النجوم ، وأنها فعالة ، ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري القادر بالله بكفرهم حين سأله عنهم .

السادسة : قوله تعالى : من آمن أي : صدق . و " من " في قوله : " من آمن " في موضع نصب بدل من " الذين " . والفاء في قوله : " فلهم " داخلة بسبب الإبهام الذي في " من " . و " لهم أجرهم " ابتداء وخبر في موضع خبر " إن " . ويحسن أن يكون " من " في موضع رفع بالابتداء ، ومعناها الشرط . و " آمن " في موضع جزم بالشرط ، والفاء الجواب . و " لهم أجرهم " خبر " من " ، والجملة كلها خبر " إن " ، والعائد على الذين محذوف ، تقديره من آمن منهم بالله . وفي الإيمان بالله واليوم الآخر اندراج الإيمان بالرسل والكتب والبعث .

السابعة : إن قال قائل : لم جمع الضمير في قوله تعالى : لهم أجرهم و آمن لفظ مفرد ليس بجمع ، وإنما كان يستقيم لو قال : له أجره . فالجواب أن " من " يقع على الواحد والتثنية والجمع ، فجائز أن يرجع الضمير مفردا ومثنى ومجموعا ، قال الله تعالى : ومنهم من يستمعون إليك على المعنى . وقال : ومنهم من يستمع إليك على اللفظ . وقال الشاعر :

ألما بسلمى عنكما إن عرضتما وقولا لها عوجي على من تخلفوا

وقال الفرزدق :

تعس فإن واثقتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فحمل على المعنى ولو حمل على اللفظ لقال : يصطحب وتخلف . قال تعالى : ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات فحمل على اللفظ . ثم قال : خالدين فحمل على المعنى ، ولو راعى اللفظ لقال : خالدا فيها . وإذا جرى ما بعد " من " على اللفظ فجائز أن يخالف به بعد على المعنى كما في هذه الآية . وإذا جرى ما بعدها على المعنى لم يجز أن يخالف به بعد على اللفظ ؛ لأن الإلباس يدخل في الكلام .

وقد مضى الكلام في قوله تعالى : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والحمد لله .

الثامنة : روي عن ابن عباس أن قوله : إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية منسوخ بقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه الآية . وقال غيره : ليست بمنسوخة . وهي فيمن ثبت على إيمانه من المؤمنين بالنبي عليه السلام .

 


اتصل بنا | الملكية الفكرية DCMA | سياسة الخصوصية | Privacy Policy | قيوم المستخدم

آيــــات - القرآن الكريم


© 2022