قوله تعالى يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى قيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : له وحده . وقال ابن عباس رضي الله عنه : الأسرى في هذه الآية عباس وأصحابه . قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومك ، فنزلت هذه الآية . وقد تقدم بطلان هذا من قول مالك . وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة . وعن ابن إسحاق : بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس : يا رسول الله ، إني قد كنت مسلما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك بذلك فأما ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخا بني الحارث بن فهر . وقال : ما ذاك عندي يا رسول الله . قال : فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال لبني الفضل وعبد الله وقثم ؟ فقال : يا رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، ذاك شيء أعطانا الله منك . ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، وأنزل الله فيه : ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى الآية . قال ابن إسحاق : وكان أكثر الأسارى فداء العباس بن عبد المطلب ، لأنه كان رجلا موسرا ، فافتدى نفسه بمائة أوقية من ذهب . وفي البخاري : وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب : حدثني أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه . فقال : لا والله لا تذرون درهما . وذكر النقاش وغيره أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية ، إلا العباس فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أضعفوا الفداء على العباس وكلفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية ، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب . وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضمنوا الإطعام لأهل بدر ، فبلغت النوبة إليه يوم بدر فاقتتلوا قبل أن يطعم ، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب ، فأخذ منه يومئذ مائة أوقية وثمانون أوقية . فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : لقد تركتني ما حييت أسأل قريشا بكفي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أم الفضل ؟ فقال العباس : أي ذهب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك قلت لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك . فقال : يا بن أخي ، من أخبرك بهذا ؟ قال : الله أخبرني . قال العباس : أشهد أنك صادق ، وما علمت أنك رسول الله قط إلا اليوم ، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر ، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، وكفرت بما سواه . وأمر ابني أخويه فأسلما ، ففيهما نزلت ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى . وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة ، وكان رجلا قصيرا ، وكان العباس ضخما طويلا ، فلما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لقد أعانك عليه ملك .
الثانية قوله تعالى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا أي إسلاما يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي من الفدية . قيل في الدنيا . وقيل في الآخرة . وفي صحيح مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ . فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله مختصر . في غير الصحيح : فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني ، وأنا بعد أرجو أن يغفر الله لي . قال العباس : وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة . وأسند الطبري إلى العباس أنه قال : في نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي أخذت مني قبل المفاداة فأبى . وقال : ذلك فيء فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي . وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص . قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ؟ فقالوا : نعم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار فقال : كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها . قال ابن إسحاق : وذلك بعد بدر بشهر . قال عبد الله بن أبي بكر : حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت : لما قدم أبو العاص مكة قال لي : تجهزي ، فالحقي بأبيك . قالت : فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت : يا بنت محمد ، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك ؟ فقلت لها : ما أردت ذلك . فقالت ، أي بنت عم ، لا تفعلي ، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك ، فإن أردت سلعة بعتكها ، أو قرضا من نفقة أقرضتك ، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال . قالت : فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ، فخفتها فكتمتها وقلت : ما أريد ذلك . فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حموها يقود بها نهارا كنانة بن الربيع . وتسامع بذلك أهل مكة ، وخرج في طلبها هبار بن الأسود ونافع بن عبد القيس الفهري ، وكان أول من سبق إليها هبار فروعها بالرمح وهي في هودجها . وبرك كنانة ونثر نبله ، ثم أخذ قوسه وقال : والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما . وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال : يا هذا ، أمسك عنا نبلك حتى نكلمك ، فوقف عليه أبو سفيان وقال : إنك لم تصنع شيئا ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس ، وقد عرفت مصيبتنا التي أصابتنا ببدر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رءوس الناس من بين أظهرنا . ارجع بالمرأة فأقم بها أياما ، ثم سلها سلا رفيقا في الليل فألحقها بأبيها ، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا في ذلك الآن من ثؤرة فيما أصاب منا ، ففعل فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها ، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أنها قد كانت ألقت - للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن أم درهم - ما في بطنها .
الثالثة : قال ابن العربي : لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين .
قال علماؤنا : إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا ، إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة