وهو معنى قوله تعالى : فكلي واشربي وقري عينا أي فكلي من الجني ، واشربي من السري ، وقري عينا برؤية الولد النبي . وقرئ بفتح القاف وهي قراءة الجمهور . وحكى الطبري قراءة ( وقري ) بكسر القاف وهي لغة نجد . يقال : قر عينا يقر ويقر بضم القاف وكسرها وأقر الله عينه فقرت . وهو مأخوذ من القر والقرة وهما البرد . ودمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة . وضعفت فرقة هذا وقالت : الدمع كله حار ، فمعنى أقر الله عينه أي سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر وتسكن ؛ وفلان قرة عيني ؛ أي نفسي تسكن بقربه . وقال الشيباني : ( وقري عينا ) معناه نامي ؛ حضها على الأكل والشرب والنوم . قال أبو عمرو : أقر الله عينه أي أنام عينه ، وأذهب سهره . وعينا نصب على التمييز ؛ كقولك : طب نفسا . والفعل في الحقيقة إنما هو للعين فنقل ذلك إلى ذي العين ؛ وينصب الذي كان فاعلا في الحقيقة على التفسير . ومثله طبت نفسا ، وتفقأت شحما ، وتصببت عرقا ، ومثله كثير .
قوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما .
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فإما ترين الأصل في ترين ترأيين فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى ونقلت فتحتها إلى الراء فصار ( تريين ) ثم قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث ، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فصار ترين ، ثم حذفت النون علامة للجزم لأن إن حرف شرط وما صلة فبقي تري ، ثم دخله نون التوكيد وهي مثقلة ، فكسر ياء التأنيث لالتقاء الساكنين ؛ لأن النون المثقلة بمنزلة نونين الأولى ساكنة فصار ترين وعلى هذا النحو قول ابن دريد :
إما تري رأسي حاكى لونه
وقول الأفوه :
إما تري رأسي أزرى به
وإنما دخلت النون هنا بتوطئة ما كما يوطئ لدخولها أيضا لام القسم . وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة ( ترين ) بسكون الياء وفتح النون خفيفة ؛ قال أبو الفتح : وهي شاذة .
الثانية قوله تعالى : فقولي إني نذرت هذا جواب الشرط وفيه إضمار ؛ أي فسألك عن ولدك فقولي إني نذرت للرحمن صوما أي صمتا ؛ قاله ابن عباس وأنس بن مالك . وفي قراءة أبي بن كعب ( إني نذرت للرحمن صوما صمتا ) وروي عن أنس . وعنه أيضا ( وصمتا ) بواو ، واختلاف اللفظين يدل على أن الحرف ذكر تفسيرا لا قرآنا ؛ فإذا أتت معه واو فممكن أن يكون غير الصوم . والذي تتابعت به الأخبار عن أهل الحديث ورواة اللغة أن الصوم هو الصمت ؛ لأن الصوم إمساك والصمت إمساك عن الكلام .
وقيل : هو الصوم المعروف ، وكان يلزمهم الصمت يوم الصوم إلا بالإشارة . وعلى هذا تخرج قراءة أنس ( وصمتا ) بواو ، وأن الصمت كان عندهم في الصوم ملتزما بالنذر ، كما أن من نذر منا المشي إلى البيت اقتضى ذلك الإحرام بالحج أو العمرة . ومعنى هذه الآية أن الله تعالى أمرها على لسان جبريل - عليه السلام - - أو ابنها على الخلاف المتقدم - بأن تمسك عن مخاطبة البشر ، وتحيل على ابنها في ذلك ليرتفع عنها خجلها ، وتتبين الآية فيقوم عذرها . وظاهر الآية أنها أبيح لها أن تقول هذه الألفاظ التي في الآية ، وهو قول الجمهور . وقالت فرقة : معنى ( قولي ) بالإشارة لا بالكلام . الزمخشري : وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ، ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافها .
الثالثة : من التزم بالنذر ألا يكلم أحدا من الآدميين فيحتمل أن يقال : إنه قربة فيلزم بالنذر ، ويحتمل أن يقال : ذلك لا يجوز في شرعنا لما فيه من التضييق وتعذيب النفس ؛ كنذر القيام في الشمس ونحوه . وعلى هذا كان نذر الصمت في تلك الشريعة لا في شريعتنا ؛ وقد تقدم . وقد أمر ابن مسعود من فعل ذلك بالنطق بالكلام . وهذا هو الصحيح لحديث أبي إسرائيل ، خرجه البخاري عن ابن عباس . وقال ابن زيد والسدي : كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام .
قلت : ومن سنتنا نحن في الصيام الإمساك عن الكلام القبيح ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه ، فليقل إني صائم . وقال - عليه الصلاة والسلام - : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .