واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون
قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات فيه ست مسائل
الأولى : قال الكوفيون : الألف والتاء في " معدودات " لأقل العدد . وقال البصريون : هما للقليل والكثير ، بدليل قوله تعالى : " وهم في الغرفات آمنون " ، والغرفات كثيرة . ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها ، وهي أيام رمي الجمار ، وهي واقعة على الثلاثة الأيام التي يتعجل الحاج منها في يومين بعد يوم النحر ، فقف على ذلك . وقال الثعلبي وقال إبراهيم : الأيام المعدودات أيام العشر ، والأيام المعلومات أيام النحر ، وكذا حكى مكي والمهدوي أن الأيام المعدودات هي أيام العشر . ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البر وغيره . قال ابن عطية : وهذا إما أن يكون من تصحيف النسخة ، وإما أن يريد العشر الذي بعد النحر ، وفى ذلك بعد .
الثانية : أمر الله - سبحانه وتعالى - عباده بذكره في الأيام المعدودات ، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر ، وليس يوم النحر منها ؛ لإجماع الناس أنه لا ينفر أحد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر ، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم النفر ؛ لأنه قد أخذ يومين من المعدودات . خرج الدارقطني والترمذي وغيرهما عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه ، فأمر مناديا فنادى : الحج عرفة ، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، أي من تعجل من الحاج في يومين من أيام منى صار مقامه بمنى ثلاثة أيام بيوم النحر ، ويصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ، ويسقط عنه رمي يوم الثالث . ومن لم ينفر منها إلا في آخر اليوم الثالث حصل له بمنى مقام أربعة أيام من أجل يوم النحر ، واستوفى العدد في الرمي ، على ما يأتي بيانه . ومن الدليل على أن أيام منى ثلاثة - مع ما ذكرناه - قول العرجي :
ما نلتقي إلا ثلاث منى حتى يفرق بيننا النفر
فأيام الرمي معدودات ، وأيام النحر معلومات . وروى نافع عن ابن عمر أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام : يوم النحر وثلاثة أيام بعده ، فيوم النحر معلوم غير معدود ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود لا معلوم ، وهذا مذهب مالك وغيره .
وإنما كان كذلك لأن الأول ليس من الأيام التي تختص بمنى في قوله سبحانه وتعالى : واذكروا الله في أيام معدودات ولا من التي عين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : أيام منى ثلاثة فكان معلوما ؛ لأن الله تعالى قال : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ولا خلاف أن المراد به النحر ، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث ، ولم يكن في الرابع نحر بإجماع من علمائنا ، فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى : " معلومات " لأنه لا ينحر فيه وكان مما يرمى فيه ، فصار معدودا لأجل الرمي ، غير معلوم لعدم النحر فيه . قال ابن العربي : والحقيقة فيه أن يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح ، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل . وقال أبو حنيفة والشافعي : ( الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة ، وآخرها يوم النحر ) ، لم يختلف قولهما في ذلك ، ورويا ذلك عن ابن عباس . وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر . قال أبو يوسف : روي ذلك عن عمر وعلي ، وإليه أذهب ؛ لأنه تعالى قال : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة : يوم الأضحى ويومان بعده . قال الكيا الطبري : فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات ؛ لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف ، ولا يشك أحد أن المعدودات لا تتناول أيام العشر ؛ لأن الله تعالى يقول : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثالث . وقد روي عن ابن عباس ( أن المعلومات العشر ، والمعدودات أيام التشريق ) ، وهو قول الجمهور .
قلت : وقال ابن زيد : الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وأيام التشريق ، وفيه بعد ؛ لما ذكرناه ، وظاهر الآية يدفعه . وجعل الله الذكر في الأيام المعدودات والمعلومات يدل على خلاف قوله ، فلا معنى للاشتغال به .
الثالثة : ولا خلاف أن المخاطب بهذا الذكر هو الحاج ، خوطب بالتكبير عند رمي الجمار ، وعلى ما رزق من بهيمة الأنعام في الأيام المعلومات وعند أدبار الصلوات دون تلبية ، وهل يدخل غير الحاج في هذا أم لا ؟ فالذي عليه فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين على أن المراد بالتكبير كل أحد - وخصوصا في أوقات الصلوات - فيكبر عند انقضاء كل صلاة - كان المصلي وحده أو في جماعة - تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام ، اقتداء بالسلف رضي الله عنهم . وفي المختصر : ولا يكبر النساء دبر الصلوات ، والأول أشهر ؛ لأنه يلزمها حكم الإحرام كالرجل ، قاله في المدونة .
الرابعة : ومن نسي التكبير بإثر صلاة كبر إن كان قريبا ، وإن تباعد فلا شيء عليه ، قاله ابن الجلاب . وقال مالك في المختصر : يكبر ما دام في مجلسه ، فإذا قام من مجلسه فلا شيء عليه . وفي المدونة من قول مالك : إن نسي الإمام التكبير فإن كان قريبا قعد فكبر ، وإن تباعد فلا شيء عليه ، وإن ذهب ولم يكبر والقوم جلوس فليكبروا .
الخامسة : واختلف العلماء في طرفي مدة التكبير فقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس : ( يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ) . وقال ابن مسعود وأبو حنيفة : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر ؛ وخالفه صاحباه فقالا بالقول الأول قول عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ، فاتفقوا في الابتداء دون الانتهاء . وقال مالك : يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق . وبه قال الشافعي ، وهو قول ابن عمر وابن عباس أيضا . وقال زيد بن ثابت : ( يكبر من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ) . قال ابن العربي : فأما من قال : يكبر يوم عرفة ويقطع العصر من يوم النحر فقد خرج عن الظاهر ؛ لأن الله تعالى قال : في أيام معدودات وأيامها ثلاثة ، وقد قال هؤلاء : يكبر في يومين ، فتركوا الظاهر لغير دليل . وأما من قال : يوم عرفة وأيام التشريق فقال : إنه قال : فإذا أفضتم من عرفات ، فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام ، هذا كان يصح لو كان قال : يكبر من المغرب يوم عرفة ؛ لأن وقت الإفاضة حينئذ ، فأما قبل فلا يقتضيه ظاهر اللفظ ، ويلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى .
السادسة : واختلفوا في لفظ التكبير ، فمشهور مذهب مالك أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاث تكبيرات ، رواه زياد بن زياد عن مالك . وفي المذهب رواية : يقال بعد التكبيرات الثلاث : لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد . وفي المختصر عن مالك : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .
قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه فيه إحدى وعشرون مسألة : الأولى : قوله تعالى : فمن تعجل التعجيل أبدا لا يكون هنا إلا في آخر النهار ، وكذلك اليوم الثالث ؛ لأن الرمي في تلك الأيام إنما وقته بعد الزوال . وأجمعوا على أن يوم النحر لا يرمى فيه غير جمرة العقبة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها ، ووقتها من طلوع الشمس إلى الزوال ، وكذلك أجمعوا أن وقت رمي الجمرات في أيام التشريق بعد الزوال إلى الغروب ، واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر أو بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس . فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق : جائز رميها بعد الفجر قبل طلوع الشمس . وقال مالك : لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لأحد برمي قبل أن يطلع الفجر ، ولا يجوز رميها قبل الفجر ، فإن رماها قبل الفجر أعادها . وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز رميها ، وبه قال أحمد وإسحاق . ورخصت طائفة في الرمي قبل طلوع الفجر ، روي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت ترمي بالليل وتقول : إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخرجه أبو داود . وروي هذا القول عن عطاء وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد ، وبه قال الشافعي إذا كان الرمي بعد نصف الليل . وقالت طائفة : لا يرمى حتى تطلع الشمس ، قاله مجاهد والنخعي والثوري . وقال أبو ثور : إن رماها قبل طلوع الشمس فإن اختلفوا فيه لم يجزه ، وإن أجمعوا أو كانت فيه سنة أجزأه . قال أبو عمر : أما قول الثوري ومن تابعه فحجته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة بعد طلوع الشمس وقال : خذوا عني مناسككم . وقال ابن المنذر : السنة ألا ترمي إلا بعد طلوع الشمس ، ولا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر ، فإن رمى أعاد ، إذ فاعله مخالف لما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته . ومن رماها بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس فلا إعادة عليه ، إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه .
الثانية : روى معمر قال أخبرني هشام بن عروة عن أبيه قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة أن تصبح بمكة يوم النحر ، وكان يومها . قال أبو عمر : اختلف على هشام في هذا الحديث ، فروته طائفة عن هشام عن أبيه مرسلا ، كما رواه معمر ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة بذلك مسندا ، ورواه آخرون عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة مسندا أيضا ، وكلهم ثقات . وهو يدل على أنها رمت الجمرة بمنى قبل الفجر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تصبح بمكة يوم النحر ، وهذا لا يكون إلا وقد رمت الجمرة بمنى ليلا قبل الفجر ، والله أعلم . ورواه أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها . وإذا ثبت فالرمي بالليل جائز لمن فعله ، والاختيار من طلوع الشمس إلى زوالها . قال أبو عمر : أجمعوا على أن وقت الاختيار في رمي جمرة العقبة من طلوع الشمس إلى زوالها ، وأجمعوا أنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر فقد أجزأ عنه ولا شيء عليه ، إلا مالكا فإنه قال : أستحب له إن ترك جمرة العقبة حتى أمسى أن يهريق دما يجيء به من الحل . واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد ، فقال مالك : عليه دم ، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لرمي الجمرة وقتا ، وهو يوم النحر ، فمن رمى بعد غروب الشمس فقد رماها بعد خروج وقتها ، ومن فعل شيئا في الحج بعد وقته فعليه دم . وقال الشافعي : لا دم عليه ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، وبه قال أبو ثور ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له السائل : يا رسول الله ، رميت بعدما أمسيت فقال : لا حرج ، قال مالك : من نسي رمي الجمار حتى يمسي فليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار ، كما يصلي أية ساعة ذكر ، ولا يرمي إلا ما فاته خاصة ، وإن كانت جمرة واحدة رماها ، ثم يرمي ما رمى بعدها من الجمار ، فإن الترتيب في الجمار واجب ، فلا يجوز أن يشرع في رمي جمرة حتى يكمل رمي الجمرة الأولى كركعات الصلاة ، هذا هو المشهور من المذهب . وقيل : ليس الترتيب بواجب في صحة الرمي ، بل إذا كان الرمي كله في وقت الأداء أجزأه .
الثالثة : فإذا مضت أيام الرمي فلا رمي فإن ذكر بعدما يصدر وهو بمكة أو بعدما يخرج منها فعليه الهدي ، وسواء ترك الجمار كلها ، أو جمرة منها ، أو حصاة من جمرة حتى خرجت أيام منى فعليه دم . وقال أبو حنيفة : إن ترك الجمار كلها فعليه دم ، وإن ترك جمرة واحدة كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاع ، إلى أن يبلغ دما فيطعم ما شاء ، إلا جمرة العقبة فعليه دم . وقال الأوزاعي : يتصدق إن ترك حصاة . وقال الثوري : يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث ، فإن ترك أربعا فصاعدا فعليه دم . وقال الليث : في الحصاة الواحدة دم ، وهو أحد قولي الشافعي . والقول الآخر وهو المشهور : إن في الحصاة الواحدة مدا من طعام ، وفي حصاتين مدين ، وفي ثلاث حصيات دم .
الرابعة : ولا سبيل عند الجميع إلى رمي ما فاته من الجمار في أيام التشريق حتى غابت الشمس من آخرها ، وذلك اليوم الرابع من يوم النحر ، وهو الثالث من أيام التشريق ، ولكن يجزئه الدم أو الإطعام على حسب ما ذكرنا .
الخامسة : ولا تجوز البيتوتة بمكة وغيرها عن منى ليالي التشريق ، فإن ذلك غير جائز عند الجميع إلا للرعاء ، ولمن ولي السقاية من آل العباس . قال مالك : من ترك المبيت ليلة من ليالي منى من غير الرعاء وأهل السقاية فعليه دم . روى البخاري عن ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له . قال ابن عبد البر : كان العباس ينظر في السقاية ويقوم بأمرها ، ويسقي الحاج شرابها أيام الموسم ، فلذلك أرخص له في المبيت عن منى ، كما أرخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم لرعي الإبل وضرورتهم إلى الخروج بها نحو المراعي التي تبعد عنمنى .
وسميت منى " منى " لما يمنى فيها من الدماء ، أي يراق . وقال ابن عباس : ( إنما سميت منى لأن جبريل قال لآدم عليه السلام : تمن . قال : أتمنى الجنة ، فسميت منى . قال : وإنما سميت جمعا لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام ) ، والجمع أيضا هو المزدلفة ، وهو المشعر الحرام ، كما تقدم .
السادسة : وأجمع الفقهاء على أن المبيت للحاج - غير الذين رخص لهم - ليالي منى بمنى من شعائر الحج ونسكه ، والنظر يوجب على كل مسقط لنسكه دما ، قياسا على سائر الحج ونسكه . وفي الموطأ : مالك عن نافع عن ابن عمر قال : قال عمر : لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة . والعقبة التي منع عمر أن يبيت أحد وراءها هي العقبة التي عند الجمرة التي يرميها الناس يوم النحر مما يلي مكة . رواه ابن نافع عن مالك في المبسوط ، قال : وقال مالك : ومن بات وراءها ليالي منى فعليه الفدية ، وذلك أنه بات بغير منى ليالي منى ، وهو مبيت مشروع في الحج ، فلزم الدم بتركه كالمبيت بالمزدلفة ، ومعنى الفدية هنا عند مالك الهدي . قال مالك : هو هدي يساق من الحل إلى الحرم .
السابعة : روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ، ثم يرمون الغد ، ومن بعد الغد ليومين ، ثم يرمون يوم النفر .
قال أبو عمر : لم يقل مالك بمقتضى هذا الحديث ، وكان يقول : يرمون يوم النحر - يعني جمرة العقبة - ثم لا يرمون من الغد ، فإذا كان بعد الغد وهو الثاني من أيام التشريق وهو اليوم الذي يتعجل فيه النفر من يريد التعجيل أو من يجوز له التعجيل رموا اليومين لذلك اليوم ولليوم الذي قبله ؛ لأنهم يقضون ما كان عليهم ، ولا يقضي أحد عنده شيئا إلا بعد أن يجب عليه ، هذا معنى ما فسر به مالك هذا الحديث في موطئه . وغيره يقول : لا بأس بذلك كله على ما في حديث مالك ؛ لأنها أيام رمي كلها ، وإنما لم يجز عند مالك للرعاء تقديم الرمي لأن غير الرعاء لا يجوز لهم أن يرموا في أيام التشريق شيئا من الجمار قبل الزوال ، فإن رمى قبل الزوال أعادها ، ليس لهم التقديم . وإنما رخص لهم في اليوم الثاني إلى الثالث . قال ابن عبد البر : الذي قاله مالك في هذه المسألة موجود في رواية ابن جريج قال : أخبرني محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاء أن يتعاقبوا ، فيرموا يوم النحر ، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرمون الغد . قال علماؤنا : ويسقط رمي الجمرة الثالثة عمن تعجل . قال ابن أبي زمنين يرميها يوم النفر الأول حين يريد التعجيل . قال ابن المواز : يرمي المتعجل في يومين بإحدى وعشرين حصاة ، كل جمرة بسبع حصيات ، فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة ؛ لأنه قد رمى جمرة العقبة يوم النحر بسبع . قال ابن المنذر : ويسقط رمي اليوم الثالث .
الثامنة : روى مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح أنه سمعه يذكر أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل ، يقول في الزمن الأول . قال الباجي : " قوله في الزمن الأول يقتضي إطلاقه زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أول زمن هذه الشريعة ، فعلى هذا هو مرسل . ويحتمل أن يريد به أول زمن أدركه عطاء ، فيكون موقوفا مسندا " . والله أعلم .
قلت : هو مسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، خرجه الدارقطني وغيره ، وقد ذكرناه في " المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس " ، وإنما أبيح لهم الرمي بالليل لأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل ؛ لأن الليل وقت لا ترعى فيه ولا تنتشر ، فيرمون في ذلك الوقت . وقد اختلفوا فيمن فاته الرمي حتى غربت الشمس . فقال عطاء : لا رمي بالليل إلا لرعاء الإبل ، فأما التجار فلا . وروي عن ابن عمر أنه قال : من فاته الرمي حتى تغيب الشمس فلا يرم حتى تطلع الشمس من الغد ، وبه قال أحمد وإسحاق . وقال مالك : إذا تركه نهارا رماه ليلا ، وعليه دم في رواية ابن القاسم ، ولم يذكر في الموطأ أن عليه دما . وقال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد : إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي ولا دم عليه . وكان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلا . وقال أبو حنيفة : يرمي ولا شيء عليه ، وإن لم يذكرها من الليل حتى يأتي الغد فعليه أن يرميها وعليه دم . وقال الثوري : إذا أخر الرمي إلى الليل ناسيا أو متعمدا أهرق دما .
قلت : أما من رمى من رعاء الإبل أو أهل السقاية بالليل فلا دم يجب ؛ للحديث ، وإن كان من غيرهم فالنظر يوجب الدم لكن مع العمد ، والله أعلم . التاسعة : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته . واستحب مالك وغيره أن يكون الذي يرميها راكبا . وقد كان ابن عمر وابن الزبير وسالم يرمونها وهم مشاة ، ويرمي في كل يوم من الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة ، يكبر مع كل حصاة ، ويكون وجهه في حال رميه إلى الكعبة ، ويرتب الجمرات ويجمعهن ولا يفرقهن ولا ينكسهن ، يبدأ بالجمرة الأولى فيرميها بسبع حصيات رميا ولا يضعها وضعا ، كذلك قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، فإن طرحها طرحا جاز عند أصحاب الرأي . وقال ابن القاسم : لا تجزئ في الوجهين جميعا ، وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرميها ، ولا يرمي عندهم بحصاتين أو أكثر في مرة ، فإن فعل عدها حصاة واحدة ، فإذا فرغ منها تقدم أمامها فوقف طويلا للدعاء بما تيسر . ثم يرمي الثانية وهي الوسطى وينصرف عنها ذات الشمال في بطن المسيل ، ويطيل الوقوف عندها للدعاء . ثم يرمي الثالثة بموضع جمرة العقبة بسبع حصيات أيضا ، يرميها من أسفلها ولا يقف عندها ، ولو رماها من فوقها أجزأه ، ويكبر في ذلك كله مع كل حصاة يرميها . وسنة الذكر في رمي الجمار التكبير دون غيره من الذكر ، ويرميها ماشيا بخلاف جمرة يوم النحر ، وهذا كله توقيف رفعه النسائي والدارقطني عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد - مسجد منى - يرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعا يديه يدعو ، وكان يطيل الوقوف . ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة رافعا يديه ثم يدعو . ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها . قال الزهري : سمعت سالم بن عبد الله يحدث بهذا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وكان ابن عمر يفعله ، لفظ الدارقطني .
العاشرة : وحكم الجمار أن تكون طاهرة غير نجسة ، ولا مما رمي به ، فإن رمى بما قد رمي به لم يجزه عند مالك ، وقد قال عنه ابن القاسم : إن كان ذلك في حصاة واحدة أجزأه ، ونزلت بابن القاسم فأفتاه بهذا .
الحادية عشرة : واستحب أهل العلم أخذها من المزدلفة لا من حصى المسجد ، فإن أخذ زيادة على ما يحتاج وبقي ذلك بيده بعد الرمي دفنه ولم يطرحه ، قاله أحمد بن حنبل وغيره .
الثانية عشرة : ولا تغسل عند الجمهور خلافا لطاوس ، وقد روي أنه لو لم يغسل الجمار النجسة أو رمى بما قد رمي به أنه أساء وأجزأ عنه . قال ابن المنذر : يكره أن يرمي بما قد رمي به ، ويجزئ إن رمى به ، إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك الإعادة ، ولا نعلم في شيء من الأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل الحصى ولا أمر بغسله ، وقد روينا عن طاوس أنه كان يغسله .
الثالثة عشرة : ولا يجزئ في الجمار المدر ولا شيء غير الحجر ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أصحاب الرأي : يجوز بالطين اليابس ، وكذلك كل شيء رماها من الأرض فهو يجزئ . وقال الثوري : من رمى بالخزف والمدر لم يعد الرمي . قال ابن المنذر : لا يجزئ الرمي إلا بالحصى ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عليكم بحصى الخذف . وبالحصى رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الرابعة عشرة : واختلف في قدر الحصى ، فقال الشافعي : يكون أصغر من الأنملة طولا وعرضا . وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : بمثل حصى الخذف ، وروينا عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة بمثل بعر الغنم ، ولا معنى لقول مالك : أكبر من ذلك أحب إلي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن الرمي بمثل حصى الخذف ، ويجوز أن يرمى بما وقع عليه اسم حصاة ، واتباع السنة أفضل ، قاله ابن المنذر .
قلت : وهو الصحيح الذي لا يجوز خلافه لمن اهتدى واقتدى . روى النسائي عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته : هات القط لي - فلقطت له حصيات هن حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال - : بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين . فدل قوله : ( وإياكم والغلو في الدين ) على كراهة الرمي بالجمار الكبار ، وأن ذلك من الغلو ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : : ومن بقي في يده حصاة لا يدري من أي الجمار هي جعلها من الأولى ، ورمى بعدها الوسطى والآخرة ، فإن طال استأنف جميعا .
السادسة عشرة : قال مالك والشافعي وعبد الملك وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن قدم جمرة على جمرة : لا يجزئه إلا أن يرمي على الولاء . وقال الحسن ، وعطاء وبعض الناس : يجزئه . واحتج بعض الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم : من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج وقال : ( لا يكون هذا بأكثر من رجل اجتمعت عليه صلوات أو صيام فقضى بعضا قبل بعض ) . والأول أحوط ، والله أعلم .
السابعة عشرة : واختلفوا في رمي المريض والرمي عنه ، فقال مالك : يرمى عن المريض والصبي اللذين لا يطيقان الرمي ، ويتحرى المريض حين رميهم فيكبر سبع تكبيرات لكل جمرة وعليه الهدي ، وإذا صح المريض في أيام الرمي رمى عن نفسه ، وعليه مع ذلك دم عند مالك . وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : يرمى عن المريض ، ولم يذكروا هديا . ولا خلاف في الصبي الذي لا يقدر على الرمي أنه يرمى عنه ، وكان ابن عمر يفعل ذلك .
الثامنة عشرة : روى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال قلنا : يا رسول الله ، هذه الجمار التي يرمى بها كل عام فنحسب أنها تنقص ، فقال : إنه ما تقبل منها رفع ولولا ذلك لرأيتها أمثال الجبال .
التاسعة عشرة : قال ابن المنذر : وأجمع أهل العلم على أن لمن أراد الخروج من الحاج من منى شاخصا إلى بلده خارجا عن الحرم غير مقيم بمكة في النفر الأول أن ينفر بعد زوال الشمس إذا رمى في اليوم الذي يلي يوم النحر قبل أن يمسي ؛ لأن الله جل ذكره قال : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه فلينفر من أراد النفر ما دام في شيء من النهار . وقد روينا عن النخعي والحسن أنهما قالا : من أدركه العصر وهو بمنى من اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغد . قال ابن المنذر : وقد يحتمل أن يكونا قالا ذلك استحبابا ، والقول الأول به نقول ؛ لظاهر الكتاب والسنة .
الموفية عشرين : واختلفوا في أهل مكة هل ينفرون النفر الأول ، فروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من شاء من الناس كلهم أن ينفروا في النفر الأول ، إلا آل خزيمة فلا ينفرون إلا في النفر الآخر . وكان أحمد بن حنبل يقول : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة ، وقال : أهل مكة أخف ، وجعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر بن الخطاب : ( إلا آل خزيمة ) أي أنهم أهل حرم . وكان مالك يقول في أهل مكة : من كان له عذر فله أن يتعجل في يومين ، فإن أراد التخفيف عن نفسه مما هو فيه من أمر الحج فلا ، فرأى التعجيل لمن بعد قطره . وقالت طائفة : الآية على العموم ، والرخصة لجميع الناس ، أهل مكة وغيرهم ، أراد الخارج عن منى المقام بمكة أو الشخوص إلى بلده . وقال عطاء : هي للناس عامة . قال ابن المنذر : وهو يشبه مذهب الشافعي ، وبه نقول . وقال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي : ( من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج ، ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج ) ، فمعنى الآية : كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا ، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك . وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي أيضا : ( معنى من تعجل فقد غفر له ، ومن تأخر فقد غفر له ) ، واحتجوا بقوله عليه السلام : من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه . فقوله : فلا إثم عليه نفي عام وتبرئة مطلقة . وقال مجاهد أيضا : معنى الآية ، من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام المقبل . وأسند في هذا القول أثر . وقال أبو العالية في الآية : لا إثم عليه لمن اتقى بقية عمره ، والحاج مغفور له البتة ، أي ذهب إثمه كله إن اتقى الله فيما بقي من عمره . وقال أبو صالح وغيره : معنى الآية لا إثم عليه لمن اتقى قتل الصيد ، وما يجب عليه تجنبه في الحج . وقال أيضا : لمن اتقى في حجه فأتى به تاما حتى كان مبرورا .
الحادية والعشرون : " من " في قوله : فمن تعجل رفع بالابتداء ، والخبر فلا إثم عليه . ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم ؛ لأن معنى " من " جماعة ، كما قال جل وعز : ومنهم من يستمعون إليك وكذا ومن تأخر فلا إثم عليه . واللام من قوله : لمن اتقى متعلقة بالغفران ، التقدير المغفرة لمن اتقى ، وهذا على تفسير ابن مسعود وعلي . قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود قال : إنما جعلت المغفرة لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي . وقال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتقى . وقال بعضهم : لمن اتقى يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم . وقيل التقدير الإباحة لمن اتقى ، روي هذا عن ابن عمر . وقيل : السلامة لمن اتقى . وقيل : هي متعلقة بالذكر الذي في قوله تعالى : واذكروا أي الذكر لمن اتقى . وقرأ سالم بن عبد الله فلا اثم عليه بوصل الألف تخفيفا ، والعرب قد تستعمله . قال الشاعر :
إن لم أقاتل فالبسوني برقعا
ثم أمر الله تعالى بالتقوى وذكر بالحشر والوقوف .