قوله تعالى : ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين
ذكر في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل . والملأ : الأشراف من الناس ، كأنهم ممتلئون شرفا . وقال الزجاج : سموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجون إليه منهم . والملأ في هذه الآية القوم ؛ لأن المعنى يقتضيه . والملأ : اسم للجمع كالقوم والرهط . والملأ أيضا : حسن الخلق ، ومنه الحديث " أحسنوا الملأ فكلكم سيروى " خرجه مسلم .
قوله تعالى : ( من بعد موسى ) : أي من بعد وفاته . إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا قيل : هو شمويل بن بال بن علقمة ويعرف بابن العجوز . ويقال فيه : شمعون ، قاله السدي : وإنما قيل : ابن العجوز لأن أمه كانت عجوزا فسألت الله الولد وقد كبرت وعقمت فوهبه الله تعالى لها . ويقال له : سمعون لأنها دعت الله أن يرزقها الولد فسمع دعاءها فولدت غلاما فسمته " سمعون " ، تقول : سمع الله دعائي ، والسين تصير شينا بلغة العبرانية ، وهو من ولد يعقوب . وقال مقاتل : هو من نسل هارون عليه السلام . وقال قتادة : هو يوشع بن نون . قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأن مدة داود هي من بعد موسى بقرون من الناس ، ويوشع هو فتى موسى . وذكر المحاسبي أن اسمه إسماعيل ، والله أعلم . وهذه الآية هي خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الإذن في الجهاد وأن يؤمروا به ، فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله . وفي الخبر أن هؤلاء المذكورين هم الذين أميتوا ثم أحيوا ، والله أعلم .
قوله تعالى ( نقاتل ) : بالنون والجزم ، وقراءة جمهور القراء على جواب الأمر . وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة بالياء ورفع الفعل ، فهو في موضع الصفة للملك .
قوله تعالى : قال هل عسيتم " عسيتم " بالفتح والكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، والباقون بالأولى وهي الأشهر . قال أبو حاتم : وليس للكسر وجه ، وبه قرأ الحسن وطلحة . قال مكي في اسم الفاعل : عس ، فهذا يدل على كسر السين في الماضي . والفتح في السين هي اللغة الفاشية . قال أبو علي : ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نعم ونعم ، وكذلك عسيت وعسيت ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم أن يقال : عسي زيد ، مثل رضي زيد ، فإن قيل فهو القياس وإن لم يقل ، فسائغ أن يؤخذ باللغتين فتستعمل إحداهما موضع الأخرى . ومعنى هذه المقالة : هل أنتم قريب من التولي والفرار ؟ . إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قال الزجاج : ألا تقاتلوا في موضع نصب ، أي هل عسيتم مقاتلة . قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله قال الأخفش : " أن " زائدة . وقال الفراء : هو محمول على المعنى ، أي وما منعنا ، كما تقول : ما لك ألا تصلي ؟ أي ما منعك . وقيل : المعنى وأي شيء لنا في ألا نقاتل في سبيل الله! قال النحاس : وهذا أجودها . و " أن " في موضع نصب . وقد أخرجنا من ديارنا تعليل ، وكذلك ( وأبنائنا ) أي بسبب ذرارينا .
قوله تعالى : ( فلما كتب عليهم ) أي فرض عليهم . ( القتال تولوا ) أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال ورأوا الحقيقة ورجعت أفكارهم إلى مباشرة الحرب وأن نفوسهم ربما قد تذهب تولوا أي اضطربت نياتهم وفترت عزائمهم ، وهذا شأن الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات الأنفة فإذا حضرت الحرب كعت وانقادت لطبعها . وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا رواه الأئمة . ثم أخبر الله تعالى عن قليل منهم أنهم ثبتوا على النية الأولى واستمرت عزيمتهم على القتال في سبيل الله تعالى .